الحقيقة لما نسبوا الظلم لأنفسهم، فاستعمال القرآن الغفلة مكان المنبهة هو للتهكم بهم والسخرية منهم، كما تقول للكسول يا مجتهد! وللجبان يا بطل.
أما في القصص (عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا) جرت مجرى التفاؤل كما تقول العرب للديغ سليما، فأهل المدينة يرصدون تحرك موسى عليه السلام ليقتلوه أو يلقوا القبض عليه فهم في منبهة ويقظة ولكنه متستر متخف متفائل بربه يرجوه أن يكونوا في غفلة عنه فلا يشعروا بدخوله. وفي سورة ق:(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا) تضمنت الغفلة معنى الريبة، والمتعدية بـ (مِن)، لقد كنت في ريبة من هذا الموقف العصيب، وفي شك من هذه النهاية الأسيفة التي لم تكن تتوقعها، يشهد على ذلك قول قرينة (مُعْتَدٍ مُرِيبٍ) والمريب هو الشاك في اللَّه وفي دينه، فمنشأ الريبة هو الغفلة، والعلاقة بين الريبة والغفلة سببية، هكذا موجب القياس.
فإلطاف النظر في لفظ (الغفلة) ومواقعها وأسيقتها، وتعديتها بغير حرفها فتح لنا بصائر: فضمناها معنى السخرية في موضع ومعنى التفاؤل في موضع ومعنى الريبة في موضع آخر. فإن كان ما ذهبنا إليه هو الراجح، كُفينا مؤونة شرحه لمزيد لُطفه.
وللباحث ألا يقطع برأيه بعد إمعان الفحص عنه وإحكامه، لأنه أمر يرجع إلى الاستنباط والفكرة وليس فيه مرجعٌ أو قول ملة. إنه التضمين ... وإنه كنز ثمين.