الثاني: هو التوجه إلى اللَّه والتجرد من كل شعور سواه، وبهذا يتحقق معنى العبادة والذي يتمثل في عبودية كل شيء لله دون سواه.
وعندها يكون قد فرَّ لله حقا، فرّ من أوهاق هذه الأرض وجواذبها ومغرياتها، وحقق غاية وجوده من الخلافة في الأرض لا لذاته هو ولا لذاتها ولكن لتحقيق معنى العبادة فيها ثم الفرار إلى اللَّه منها.
أقول:(فرَّ) يتعدى بـ (مِن). فلمَ عدّاه الحكيم بـ (إلى)؟ هل ضمَّنه معنى لجأ واللجوء إلى كنف اللَّه ورحمته هو منجاة من عذابه كما جاء في الحديث الشريف، واللجوء أضوأ من الفرار أو الهروب وأنوه، لجفاء طبعٍ يوحشك في هذا، وليانٍ وحنوٍّ يُؤنسك في ذاك.
والفرار صورة حسّية عجيبة لا يقوم مقامها في هذا السياق أي لفظ آخر، فهي تستحثنا على وجه السرعة إلى البَدار ما دُمنا في هذه الدار، والآن الآن قبل ألا يكون آن ... أن نفر من أين؟ من الهوى والنفس والدنيا الدنيّة ... وإلى أين؟ إلى اللَّه نلجأ بتوبة نصوح، ونتوجه بعمل صالح يزحزحنا من النار إلى الجنة.
أرأيت كيف يُكسب التضمينُ اللفظَ نفاسة حين ضم إلى الفِرار اللجوء فجمع النقيضين في عروته، لعله يذهب بك في استحسان معناه ما يستولي على هوى نفسك.