أقول: يا لهذا العبد الصالح في مثل هذا الموقف الرهيب، ومن مثل هذه الفِرية التي شاعت وانتشرت على الألسنة! أهاهو يواجهها بالتبرئ المطلق (مَا يَكُونُ لِي) لا يحق، ولا يحوز، وما ينبغي، ولا يصح ... لم يقل: ما قلته .... بل ما يكون لي أن أقول. فقدم ناسخ القول عليه وفوض ذلك بالكلية إلى علم العليم المحيط بكل شيء، وهذا منتهى الأدب والتذلل بين يدي ذي الجلال لا مزيد فيه ولا مطمع في مزيد .... إنه جواب الراجف الواجف الخاشع المنيب إن كنت قلته فقد علمته وفي تنزيه اللَّه المطلق سبحانك وفي التبرئ الكامل الذي استشهد عليه بذات اللَّه إن كنت قلته فقد علمته -.
لقد تضمن القول هنا معنى الادعاء: أن أقول أي أدَّعي. وكل ادعاء بحاجة إلى شاهد أو دليل لإثباته أو نفيه، ولقد نفى عليه السلام هذه الدعوى أو الفرية المنسوبة من قالة السوء على لسانه، بأنها ليست من حقه، ولا حتى في تصوره؛ وشاهده على براءته هو علام الغيوب (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي) وهذه شهادة لا تُرد ودليله على صدقه (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) فماذا بعد علم العليم الحكيم؟!
ثم لا أجمل ولا ألطف من نفي العلم هنا (وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) إلا أن الإقرار بالجهل أرق وألطف.
إنه التضمين حمل (القول) فيه معنى (الادعاء) ليدل على إيجازه وإعجازه ويكشف عن ما استودعه فيه من أسراره.