يوم كانت السيادة لقريش على سائر القبائل قال بعض مَن آمن (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) فجاء الجواب: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) وهذه الحقيقة كفيلة بتعديل القيم والموازين، وتعديل النهج والسلوك، وتعديل الوسائل والمناهج. ويكفي أن تستقر في القلب لتقف بك أمام الدنيا كلها عزيزا ثابتا لا تحني رأسك لمخلوق أو وضع أو حُكم أو دولة أو سلطان. لماذا؟ لأن العزة لله ولا يفوز بها أحد بغير رضاه. وأسباب العزة ووسائلها: العمل الطيب، والعمل الصالح فيُكرم صاحبهما ويُمنح العزة والاستعلاء.
ولولا التضمين لما انجلت هذه المحاسن وانكشفت شواردها، إذ لو جاء الفعل لازما لصرفنا عن النظر إليه. وأما ما ذهب إليه المفسرون في تضمين الفعل معنى كسب في قوله تعالى:(بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) وقوله: (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ).
فيومئ إلى الحالة النفسية التي يتلبس بها مرتكب السيئة. من لذته بها، يحيا معها ولها، يتنفس في جوها وتملأ عليه عالمه النفسي، أما المكر فالفرق لائح بين من يدبر المؤامرات لإيذاء المسلمين والمسلمات، وبين مرتكب الموبقات يَلتذها ويحيا لها ويظنها مكسبة. فالأول أخطر بكثير لأن حياكته على سواه،
ومكسبة الثاني على نفسه لا يؤذي غيره، فمن لحظ هذا الفرق الدقيق بقلبه وأدرك هذا النظم البديع بلبه، عرف أن المكر هنا متضمن حياكة مؤامرات لا كسبَ لذةِ موبقات، وأبصر بعين اليقين أنه تنزيل من حكيم حميد.