للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

آخر من الفتن كان كل عالم مخلص يقلق لها. كانت الأمة الإسلامية انقسمت إلى معسكرات متناحرة متقاتلة (١)، فهناك طائفة الشيعة في حرب مع أهل السنة، وهؤلاء في مناظرة مع المعتزلة، وأهل السنة أنفسهم لم يكونوا متوافقين فيما بينهم، مجتمعين على كلمة واحدة. فكانت العلاقات بينهم عبارة عن مطارحات ومناقشات كانت سرعان ما تتحول إلى قتال دامٍ. وكانت الوحدة التي دعا إليها الإسلام اختفت، والألفة بين الناس تلاشت، وعواطف الأخوة والمحبة انعدمت، ومات الشعور بالتعاون والتضامن، وحل مكانه الشعور بالأنانية، والتفرق والتشتت والكراهية والحقد، والاختلاف والتحازب. وكانت النتيجة أن ضعفت شوكة المسلمين، وانعدم ذلك الرعب الذي نصر الله به هذه الأمة، وذهبت ريح المسلمين طبقًا لما أنذر الله في كتابه حين قال: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (٢).

وكان العلماء أهملوا واجبهم، فبدلاً من أن يعملوا على تأليف القلوب والإصلاح بين الناس، صاروا في مقدمة الذين يوقدون نيران الفتن، أو ينضمون للقائمن عليها.

وهذا التشتت في صفوف الأمة أدى إلى ضعف بين أدركه أعداء الإسلام الذين كانوا يتربصون بالمسلمين، فاغتنموا ذلك، وأعدوا عدتهم، وبدأوا حملاتهم، وأذاقوا المسلمين أنواعا من العذاب من القتل والأسر والتشريد.

وكان الخلفاء والأمراء والسلاطين يخوضون أحيانًا غمار هذه الفتن. وكان انحيازهم إلى طائفة ما يعني غلبتها وانتصارها من مخالفيهم الذين كانوا يتعرضون لأقصى المحن والبلايا على أيديهم. فمثلا كان هوى الخليفة القادر بالله مع أهل السنة وقام بنصرتهم في أكثر من موقع، ففي سنة ثمان وأربعمائة وقعت فتنة عظيمة في بغداد بين أهل السنة والشيعة قتل فيها عدد كبير من الخليقة، فتدخل الخليفة، وطرد زعماء الباطنية والجهمية والمشبهة، واستتاب فقهاء المعتزلة فأظهروا الرجوع، وتبرءوا من


(١) انظر "الكامل" لابن الأثير و"البداية والنهاية" لابن كثير و"شذرات الذهب" حوادث سنة ٤٠٨ هـ، ٤٢٠ هـ، ٤٥٨ هـ.
(٢) الأنفال (٨/ ٤٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>