للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وقد ذكرنا أخبارًا تدل على جواز المفاضلة بين السور والآيات قال الله عز وجلّ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (١).

قال الحليمي (٢) رضي الله عنه: ومعنى ذلك يرجع إلى أشياء.


(١) سورة البقرة (٢/ ١٠٦).
(٢) راجع "المنهاج" (٢/ ٢٤٤ - ٢٤٥).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في "الإجابة عن السؤال": هل يتفاضل القرآن في نفسه، فيكون بعضه أفضل من بعض؟ قال: هذا فيه للمتأخرين قولان مشهوران، منهم من قال: لا يتفاضل في نفسه لأنه كله كلام الله، وكلام الله صفة له- قالوا- وصفة الله لا تتفاضل لاسيما معَ القول بأنه قديم. فإن القديم لا يتفاضل، كذلك قال هؤلاء في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}. قالوا: "فخير" إنما يعود إلى غير الآية، مثل نفع العباد وثوابهم.
والقول الثاني: أن بعض القرآن أفضل من بعض، وهذا قول الأكثرين من الخلف والسلف.
فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث الصحيح في الفاتحة: "إنه لم ينزل في الخوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها". فنفي أن يكون لها مثل، فكيف يجوز أن يقال: إنه متماثل؟ وقد ثبت عنه في الصحيحِ أنه قال لأبي بن كعب: "يا أبا المنذر! أتدري أي آية في كتاب الله أعظم". قال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}. فضرب بيده في صدره وقال له: "ليهنك العلم أبا المنذر". فقد بين أن هذه الآية أعظم آية في القرآن. وهذا بين أن بعض الآيات أعظم من بعض. وأيضًا فإن القرآن كلام الله. والكلام يشرف بالمتكلم به، سواء كان خبرا أو أمرا. فالخبر يشرف بشرف المُخبر، وبشرف المُخبر عنه، والأمر يشرف بشرف الآمر، وبشرف الامر به. فالقرآن وإن كان كله مشتركا في أن الله تكلم به، لكن منه ما أخبر الله به عن نفسه، ومنه ما أخبر به عن خلقه، ومنه ما أمرهم به، فمنه ما أمرهم فيه بالإيمان ونهاهم فيه عن الشرك، ومنه ما أمرهم به بكتابة الدين ونهاهم فيه عن الربا. ومعلوم أن ما أخبر به عن نفسه {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أعظم مما أخبر به عن خلقه {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} وما أمر فيه بالإيمان، وما نهى فيه عن الشرك أعظم مما أمر فيه بكتابة الدين ونهى فيه عن الربا. وهكذا كان كلام العبد مشتركا بالنسبة إلى العبد- وهو كلام لمتكلم واحد- ثم إنه يتفاضل بحسب المتكلم فيه. فكلام العبد الذي يذكر به ربه ويأمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر أفضل من كلامه الذي يذكر فيه خلقه، ويأمر فِه بمباح أو محظور.
وإنما غلط من قال بالأول لأنه نظر إلى إحدى جهتي الكلام، وهي جهة المتكلم به، وأعرض عن الجهة الأخرى وهي جهة المتكلم فيه وكلاهما للكلام به تعلق يحصل به التفاضل والتماثل.
راجع (تفسير سورة الإخلاص "طبعة الدار السلفية" (ص ٢٩ - ٣١) ط ثانية).

<<  <  ج: ص:  >  >>