معنى ذلك في أنفسكم دلالات الحدث، وهي الأحوال المتقلبة بهم من حيث لم ينفكوا عنها، فإن تلك الأحوال إذا كانت أحداثا ولم يكونوا خلوا منها قط فواجب أن يعلموا أنهم أحداث، والحدث لا يخلو من محدث.
وقيل: معنى ذلك أنكم تعلمون من أنفسكم لم تكونوا ثم كنتم، فلا يخلو أحدكم من أن يكون هو الذي خلق نفسه أو أبواه خلقاه أو غيره وغيرهما، فلا يمكن أن يكون خلق نفسه، لأنه لو شاء بعد ما تمت قواه وكمل عقله أن يتم من نفسه عضوا ناقصا لم يقدر عليه، فوجب أن يعلم أنه إذا كان نطفة مواتًا من أن يقلب نفسه حالًا فحالًا أبعد وعنه أعجز، ثم يعلم أنه إذا كان موجودًا غير أنه ضعيف أو موات لا يقدر من أمره على شيء فهو إذا كان عدمًا من بعد ذلك أبعد، ولا يمكن أن يكون أبواه فعلاه، لأن الأبوين في العجز الذي ذكرنا مثله، فإذا استحال أن يكون فعلًا لنفسه واستحال أن يكون فعلا لأبويه، فحق إذا أنه فعل فاعل غيره وغير أبويه، وإنما يراد الله بذلك الفاعل {أَفَلَا تُبْصِرُونَ}: ألا تدركون بعقولكم ما فيها من هذه الهداية فتهتدوا ولا تكفروا.
فإن قال قائل: إن الفاعل هو الطبع قيل له: وما الطبع؛ فإن هذا الاسم نفسه يدل على أن للمسمى به فاعلًا لأن الطبع لا يكون إلا فعل الطابع كما لا يكون الضرب إلا قعل الضارب فإن الطبيعة هي المطبوعة كما أن القتيلة هي المقتولة والذبيحة هي المذبوحة والصنيعة هي المصنوعة، والمفعول في اقتضاء الفعل كالفعل وإن قالوا: الطبيعة قوة مخصوصة فذكروها ونعتوها قيل لهم: القوة عرض لا بقاء له فيستحيل أن يؤلف الأجسام كما يستحيل على اللون أن يفعل ذلك وعلى الصوت والطعم لأن خلق الإنسان فعل سديد متقن فلا يمكن أن يكون صدر إلا من عالم حكيم، والقوة لا تليق بها الحياة ولا القدرة ولا العلم ولا الحكمة فانى يمكن أن يكون الخلق وقع منها، وإن وصفوا الطبيعة بهذه الصفات كانوا مشيرين بمن هي له إلى الباري إلا أنهم يلحدون في اسمه فيسمون به غيره ويثبتونه وعنده أنهم ينفونه وهذا نهاية الجهل فيقال لهم ما قال الله -جل وعز- {أَفَلَا تُبْصِرُونَ}: أي لا عقول لكم تدركون بها خطأ هذا القول وفساده فترجعوا عنه إلى ما يصح ويسلم على النظر وباللّه التوفيق.