وقال القاضي عياض: لم يخرج مالك ولا البخاري أحاديث النهي، وأخرجها مسلم من رواية قتادة عن أنس، ومن روايته عن أبي عيسى عن أبي سعيد وهو معنعن، وكان شعبة يتقى من حديث قتادة ما لا يصرح فيه بالتحديث، وأبوعيسى غير مشهور، واضطراب قتادة فيه مما يعله مع مخالفة الأحاديث الأخرى والأئمة له. وأما حديث أبي هريرة، ففي سنده عمر بن حمزة ولا يحتمل منه مثل هذا لمخالفة غيره له، والصحيح أنه موقوف. قال النووي رحمه الله في "شرح صحيح مسلم" (١٣/ ١٩٥) بعدما عرض أحاديث الإباحة وأحاديث الزجر والنهي: اعلم أن هذه الأحاديث أشكل معناها على بعض العلماء، حتى قال فيها أقوالًا باطلة، وزاد حتى تجاسر، ورام أن يضعف بعضها، وادعى فيها دعاوى باطلة، لا غرض لنا في ذكرها، ولا وجه لاشاعة الأباطيل والغلطات في تفسير السنن بل نذكر الصواب، ويشار إلى التحذير من الاغزار بما خالفه، وليس في هذه الأحاديث- بحمد الله تعالى- إشكال، ولا فيها ضعف، بل كلها صحيحة، والصواب فيها أن النهي فيها محمول على كراهة التنزيه، وأما شربه - صلى الله عليه وسلم - قائما فبيان للجواز فلا إشكال ولا تعارض، وهذا الذي ذكرناه يتعين المصير إليه. وأما من زعم نسخا أو غيره، فقد غلط غلطا فاحشا، وكيف يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع بين الأحاديث، ولو ثبت التاريخ وأنى له بذلك والله أعلم. وقال الحافظ بعدما تعقب قول القاضي عياض: وسلك العلماء في ذلك مسالك: أحدها: الترجيح، وأن أحاديث الجواز أثبت من أحاديث النهي، وهذه طريقة أبي بكر الأثرم. والمسلك الثاني: دعوى النسخ، وإليها جنح الأثرم وابن شاهين، فقررا على أن أحاديث النهي على تقدير ثبوتها منسوخة بأحاديث الجواز، بقرينة عمل الخلفاء الراشدين ومعظم الصحابة والتابعين بالجواز. والمسلك الثالث: الجمع بين الخبرين بضرب من التأويل، فقال أبو الفرج الثقفي في نصره الصحاح: والمراد بالقيام هنا المشي، وجنح الطحاوي إلى تأويل أخر وهو حمل النهي على من لم يسم عند شربه، وهذا إن سلم له في بعض ألفاظ الحديث لم يسلم له في بقيتها، وسلك أخرون في الجمع حمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه، وأحاديث الجواز على بيانه، وهي طريقة الخطابي وابن بطال في آخرين، وهذا أحسن المسالك وأسلمها وأبعدها عن الاعتراض انتهى قوله ملخصا. راجع "فتح الباري" (١٠/ ٨٣ - ٨٤).