للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كَانُوا يَكْسِبُون، فَعِنْد ذَلك يَعْرِف الْمُشْرِكُون أنَّ الله لا يُكْتَم حَدِيثًا، فَذلك قَوله: (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) [النساء: ٤٢] (١).

وقال أبو إسحاق الزَّجَّاج: تَأوِيل هَذه الآية لَطِيف جِدًّا؛ أخْبَر الله عَزَّ وَجَلَّ بِقَصَص الْمُشْرِكِين وافْتِتَانِهم بِشِرْكِهم، ثم أخْبَر أن فِتْنَتَهم لم تَكُنْ حِين رَأوا الْحَقَائق إلَّا أن انْتَفَوا مِنْ الشِّرْك، ونَظِير هَذا في اللُّغَة أنْ تَرَى إنْسَانًا يُحِبّ غَاويًا فإذا وَقَع في هَلَكَة تَبَرَّأ مِنه، فيُقَال: مَا كَانَتْ مَحَبَّتُك إياه إلَّا أن تَبَرَّأت مِنه (٢).

وقال الْحَسَن: هذا خَاصَّ بالْمُنَافِقِين جَرَوا على عَادَتِهم في الدُّنيا، ومَعْنَى (فِتْنَتُهُمْ) عَاقِبَة فِتْنَتِهم، أي: كُفْرِهم.

وفي صحيح مسلم (٣) من حَدِيث أبي هُريرة قَال: فَيَلْقَى (٤) العَبدَ فيَقُول: أي فُل! (٥) أَلَمْ أُكْرِمْك وأُسَوّدْك وأُزَوِّجْك، وأُسَخِّرْ لك الخيل والإبل، وأَذَرْك تَرْأس وتَرْبَع؟ فَيَقُول: بَلى، أيْ رَبّ. فَيَقُول: أفَظَنَنْتَ أنك مُلاقِيّ؟ فَيَقُول: لا. فَيَقُول: إني أنْسَاك كَمَا نَسِيتَنِي. ثم يَلْقَى الثَّاني [فَيَقُول له، ويَقُول هُو مِثْل ذَلك بِعَينِه] (٦)، ثم يَلْقَى الثَّالِث له مِثْل ذلك، فَيَقُول: يَا رَبّ آمَنْتُ بِك وبِكِتَابِك وبِرُسُلِك (٧)


(١) في صحيح البخاري (٤/ ١٨١٦): وأما قوله: (مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)، فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون: تعالوا نقول لم نكن مشركين، فَخُتمَ على أفْواههم فَتَنْطِق أيْديهم، فعند ذلك عُرِفَ أنَّ الله لا يُكْتَم حديثًا، وعنده (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية.
(٢) وهذا الجواب هو المسألة الثانية عند الرازي (التفسير الكبير ١٢/ ١٥١).
(٣) ح (٢٩٦٨) ضمن حديث طويل أوّله في رُؤية الله سُبحانه وتَعالى.
(٤) يَعني: ربّ العزة سُبْحانه.
(٥) قال النووي (المنهاج ١٨/ ١٠٣): هو بضم الفاء وإسكان اللام، ومعناه: يا فلان. وهو ترخيم على خلاف القياس. وقيل: هي لغة بمعنى "فلان" حكاها القاضي.
(٦) ما بين المعكوفتين من تصرف القرطبي، وإلا فهو مفصل في صحيح مسلم كسؤال الأول وقول رب العالمين له.
(٧) هكذا في "الجامع لأحكام القرآن"، وفي صحيح مسلم [وبِرَسُولِك] على الإفْرَاد.

<<  <   >  >>