للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وصَلّيت وصُمْتُ وتَصَدّقتُ، ويُثْنِي بِخَير مَا اسْتَطَاع. قَال فَيُقَال: هَا هُنَا إذًا (١). ثم يُقَال له: الآن نَبْعَث شَاهِدًا عَليك. ويَتَفَكّر في نَفْسِه: مَنْ ذَا الذي يَشْهَد عَليّ؟ فَيُخْتَم عَلى فِيه، ويُقَال لِفَخذِهِ ولَحْمِه وعِظَامِه: انْطِقِي، فَخِذُه ولَحْمُه وعِظَامُه بِعَمَلِه، وذلك لِيُعْذِر مِنْ نَفْسِه. وذَلك الْمُنَافِق، وذَلك الذي سَخِطَ الله عليه.

وقال في تَفْسِير قَوله تَعالى: (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [الأنعام: ٢٤]:

(كَذَبُوا) بِمَعْنى يَكذِبُون، فَعَبَّر عَنْ الْمُسْتَقْبَل بالْمَاضِي، وجَاز أن يُكَذِّبُوا في الآخِرَة لأنه مَوْضِع دَهَش وحَيْرة وذُهُول عَقْل.

وقيل: لا يَجُوز أن يَقع مِنْهم كَذِب في الآخِرة؛ لأنها دَار جَزاء عَلى مَا كَان في الدُّنيا، وَعَلى ذلك أكْثَر أهْل النَّظَر، وإنما ذلك في الدُّنيا؛ فَمَعْنى (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) عَلى هَذا: مَا كُنَّا مُشْرِكِين عِنْد أنْفُسِنَا. وعَلى جَواز أن يَكْذِبوا في الآخِرة يُعَارِضُه قَوله: (وَلَا يَكْتَمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)، ولا مُعَارَضة ولا تَنَاقُض؛ لا يَكْتُمُون الله حَدِيثًا في بَعض الْمَواطِن إذا شَهِدَتْ عَليهم ألْسِنَتُهم وأيْدِيهم وأرْجُلُهم بِعَمَلِهم، ويَكْذِبون على أنْفُسِهم في بَعض الْمَواطِن قَبْل شَهَادَة الْجَوارِح عَلى ما تَقَدّم. والله أعلم.

وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، أي عَلِمْنَا أنَّ الأحْجَار لا تَضُرّ ولا تَنْفَع. وهَذَا وإن كَان صَحِيحًا مِنْ القَول فَقَد صَدَقُوا ولم يَكْتُموا، ولَكِن لا يُعْذَرُون بِهَذا، فإنَّ الْمُعَانِد كَافِر غَير مَعْذُور (٢).


(١) في صحيح مسلم [فيَقول: هاهنا إذًا]. قال النووي (المنهاج ١٨/ ١٠٤): معناه: قف هاهنا حتى يشهد عليك جَوَارِحُك إذْ قَدْ صِرْتَ مُنْكِرا.
(٢) الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (٦/ ٣٧٠) باختصار.

<<  <   >  >>