للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم ذَكَر مَنْ قَال بِذلك، وخَتَمَه بِقَولِه: فَتَأوِيل أهْل هَذه الْمَقَالَة في هَذه الآيَة: ولِكُلّ أهْل مِلَّة قِبْلةٌ هُو مُسْتَقْبِلُها، ومُوَلٍّ وَجْهَه إلَيْهَا.

وذَكَر القَول الثَّاني، ثم قَال: وتَأويل قَائل هَذه الْمَقَالَة: ولِكُلّ نَاحِية وَجَّهَك إلَيْهَا رَبُّك يَا مُحَمَّد قِبْلَة، اللهُ عَزَّ وَجَلّ مُوَلِّيها عِبَادَه.

واخْتَار أنَّ مَعْنَى قَوله: (هُوَ مُوَلِّيهَا) أنّه يَعْنِي: هُو مُوَلِّ وَجْهَه إلَيْها ومُسْتَقْبِلها.

فَمَعْنَى الكَلام إذًا: ولِكُلّ أهْلِ مِلّة وِجْهَة، الكُلُّ مِنْهم مُوَلُّوها وُجُوهَهم (١).

أمَّا قَوله تَعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) فَمَعْنَاه عند ابن جرير: فَبَادِرُوا وسَارِعُوا، مِنْ الاسْتِبَاق، وهو الْمُبَادَرَة والإسْرَاع.

وإنّما يَعْنِي بِقَوله: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) أي: قد بَيّنْتُ لَكم أيّها الْمُؤمِنُون الْحَقَّ، وهَدَيْتُكم للقِبْلَة التي ضَلَّت عَنْها اليَهُود والنَّصَارَى وسَائرُ أهْل الْمِلَل غَيركم، فَبَادِرُوا بالأعْمَال الصَّالِحَة، شُكْرًا لِرَبِّكُم، وتَزَوَّدُوا في دُنْيَاكم لآخِرَتِكم، فَإني قَدْ بَيّنْتُ لَكم سُبُل النَّجَاة، فَلا عُذْر لَكم في التَّفْرِيط، وحَافِظُوا عَلى قِبْلَتِكم، فَلا تُضَيِّعوها كَمَا ضَيَّعَتْها الأُمَم قَبْلَكم، فَتَضِلُّوا كَمَا ضَلَّتْ (٢).

وخَتَم الْمَبْحَث بِقَولِه: وإنّما حَضَّ الله عَزَّ وَجَلّ الْمُؤمِنِين بِهَذه الآيَة عَلى طَاعَتِه والتَّزَوُّد في الدُّنْيا للآخِرَة، فَقَال جَلّ ثَنَاؤه لَهم: اسْتَبِقُوا أيّها الْمُؤمِنُون إلى العَمَل بِطَاعَة رَبِّكم، ولُزُوم مَا هَدَاكم لَه مِنْ قِبْلَة إبْراهيم خَلِيله وشَرَائع دِينِه، فإنَّ الله تَعالى ذِكْرُه يَأتي بِكُمْ وبِمَن خَالَفَ قَبْلَكُم ودِينَكُم وشَرِيعَتَكُم جَمِيعًا يَوْم القِيَامَة، مِنْ حَيث كُنْتُمْ مِنْ


(١) انظر: جامع البيان، مرجع سابق (٢/ ٦٧٤ - ٦٧٧).
(٢) أي اليهود والنصارى والملل السابقة. وإنما أضلهم الله جزاء ضلالهم، جزاء وفاقا، كما قال تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [الصف: ٥]، ومثله ما ضلت به اليَهُود والنَّصَارى عن يوم الجمعة، كما قال عليه الصلاة والسلام: نحن الآخَرون السَّابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فُرِض عليهم فاختلفوا فيه، فَهَدَانا الله، فالناس لنا فيه تبع؛ اليهود غدًا، والنصارى بعد غد. رواه البخاري (ح ٨٣٦)، ومسلم (ح ٨٥٥).

<<  <   >  >>