للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مِلْكُهم - طَاعَتَه فِيمَا أمَرَهُم ونَهَاهُم، وفِيمَا فَرَضَ عَليهم مِنْ الفَرَائض والتَّوجِيه نَحْو الوَجْه الذي وُجِّهُوا إليه إذْ كان مِنْ حُكْم الْمَمَالِيك طَاعَة مَالِكهم.

ومَعْنَى الآيَة إذًا: ولله مُلْك الْخَلْق الذي بين الْمَشْرِق والْمَغْرِب يَسْتَعْبِدُهم بِمَا يَشَاء، ويَحْكُم فِيهم مَا يُرِيد، عليهم طَاعَتُه، فَوَلُّوا وُجُوهَكُم أيها الْمُؤمِنُون نَحْو وَجْهي، فإنَّكم أيْنَمَا تُوَلُّوا وُجُوهَكُم فَهُنالِك وجْهِي.

فأمَّا القَول في هَذه الآيَة نَاسِخَة أم مَنْسُوخَة، أم لا هي نَاسِخَة ولا مَنْسُوخَة؟ فَالصَّوَاب فِيه مِنْ القَول أن يُقَال: إنّها جَاءت مَجِيء العُمُوم والْمُرَاد الْخَاصّ.

وعَلَّل ذلك بِمَا تَحْتَمِله الآيَة. ثم قال:

فإذ كان قَوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) مُحْتَملًا مَا ذَكَرْنا مِنْ الأوْجُه لَم يَكُنْ لأحد أن يَزْعُم أنّها نَاسِخَة أوْ مَنْسُوخَة إلَّا بِحُجَّة يَجِب التَّسْلِيم لَها، لأنَّ النَّاسِخ لا يَكُون إلَّا بِمَنْسُوخ.

ونَفَى وُجُود حُجّة يَجِب التَّسْلِيم لَها بِأنَّ قَولَه: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) مَعْنِيّ بِه: فأيْنَمَا تُوُجِّهُوا وُجُوهَكُم في صَلاتِكُم فَثَمّ قِبْلَتكم.

ولا أنّها نَزَلَتْ بَعْد صَلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصْحَابه نَحْو بَيْت الْمَقْدِس أمْرًا مِنْ الله عَزَّ وَجَلَّ لَهم بِها أن يَتَوَجّهوا نَحْو الكَعْبَة (١)؛ فيَجُوز أن يُقَال:


(١) روى ابن جرير (٢/ ٤٤٩) عن ابن عباس قال: كان أوَّل مَا نُسِخَ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود أمره الله عز وجل أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرًا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم عليه السلام، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله تبارك وتعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) إلى قَوله: (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة: ١٤٤]، فارْتَاب مِنْ ذلك اليَهُود، وقَالُوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله عز وجل: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) [البقرة: ١٤٢]، وقال: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ورَوى مثله (٢/ ٦٢٢) عن عكرمة والحسن البصري.
ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب "الناسخ والمنسوخ" عن ابن عباس. (نقله ابن كثير في تفسير القرآن العظيم ٢/ ٢٩).
ورواه الطبراني في مسند الشاميين (ح ٢٤١٢)، والحاكم في المستدرك (ح ٣٠٦٠) وصحّحه على شرط الشيخين.
والبيهقي في السنن الكبرى (ح ٢٠٧٩، ٢٠٨٠)، وابن عبد البر في الاستذكار (١/ ١٩)، ونَقَل في "التمهيد" (١٧/ ٤٩) الإجماع على أن أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة، فقال: وأجمع العلماء أن شأن القبلة أول ما نسخ من القرآن، وأجمعوا أن ذلك كان بالمدينة.
ويظهر أن مقصود ابن جرير أن هذه الآية ليست هي الناسخة، والله أعلم.

<<  <   >  >>