للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والذين آمَنُوا بألْسِنَتِهم مِنْ غَير مُوَاطَأة قُلُوبِهِمْ كَانوا يَتَعَزَّزُون بِالْمُشْرِكِين، كَمَا قَال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) [النساء: ١٣٩].

فَبَيَّن أنْ لا عِزَّة إلَّا لله ولأوْلِيائه، وقَال: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)، والْمَعْنَى: فَلْيَطْلُبها عند الله، فَوَضَعَ قَوله: (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) مَوْضِعه اسْتِغْنَاء به عَنه لِدَلالَته عَليه، لأنَّ الشَّيء لا يُطْلَب إلَّا عِند صَاحِبِه ومَالِكِه، ونَظِيره قَولك: مَنْ أرَاد النَّصِيحَة فَهي عِنْد الأبْرَار. تُريد فَلْيَطْلُبها عِندهم، إلَّا أنك أقَمْتَ مَا يَدُلّ عَليه مَقَامَه.

وَمَعْنى: (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) أنَّ العِزَّة كُلها مُخْتَصّة بِالله عِزَّة الدُّنيا وعِزَّة الآخِرَة، ثم عَرَّف أنَّ مَا تُطْلَب به العزَّة وهو الإيمان والعَمَل الصَّالح بِقَوْلِه: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: ١٠] (١).

وفي آية "المنافقون" بَيَّن الزمخشري أنَّ الغَلَبة والقُوَّة لله ولِمَن أعَزَّه الله وأيّدَه مِنْ رَسُوله ومِن الْمُؤمِنين، وهُم الأخِصَّاء بِذلك، كَمَا أنَّ الْمَذَلَّة والْهَوَان للشَّيْطَان وذَويه مِنْ الكَافِرِين والْمُنَافِقِين (٢).

ويَرى ابن عطية أنَّ آية "النساء" وَعِيدٌ وتَوْبِيخ للمُنَافِقِين، حيث قال: وَقَّف تَعالى عَلى جِهَة التَّوْبِيخ على مَقْصِدِهم في ذَلك، أهُو طَلَب العِزَّة والاسْتِكْثَار بِهم؟ أي: لَيس الأمْر كذلك، بل العِزَّة كُلّها لله يُؤتيها مَنْ يَشاء، وقَد وَعَد بِهَا الْمُؤمِنين، وجَعَل العَاقِبَة للمُتَّقِين، والعِزَّة أصْلُها، الشِّدَّة والقُوَّة، ومِنه: الأرْض العَزَاز، أي: الصُّلْبَة، ومِنه: (وَعَزَّنِي) [ص: ٢٣] أي: غَلَبَنِي بِشِدَّتِه، واسْتَعَزّ الْمَرَض إذا قَوِي، إلى غَير هَذا من تَصَارِيف اللفْظَة (٣).


(١) الكشاف، مرجع سابق (ص ٨٨٢).
(٢) المرجع السابق (ص ١١١٠).
(٣) المحرر الوجيز، مرجع سابق (٢/ ١٢٥).

<<  <   >  >>