للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأمَّا في آيَة "المائدة" فَقد أطَال في الْجَواب، حيث قال: (مَاذَا) مُنْتَصِب بـ (أُجِبْتُمْ) انْتِصَاب مَصْدره على مَعْنَى أيّ إجَابَة أُجِبْتُم، ولو أُرِيد الْجَواب لَقِيل: بِمَاذا أُجِبْتُم؟

فإن قُلت: مَا مَعْنَى سُؤالِهم؟

قلت: تَوبيخ قَومِهم، كَمَا كان سُؤال الْمَوءودَة تَوْبِيخًا للوائِد.

فإن قلت: كَيف يَقُولُون: (لَا عِلْمَ لَنَا) وقد عَلِمُوا بِمَا أجِيبُوا؟

قلت: يَعْلَمُون أنَّ الغَرَض بالسُّؤال تَوْبِيخ أَعْدَائهم فَيَكِلُون الأمْر إلى عِلْمِه وإحَاطَته بِما مُنُوا بِه مِنهم، وكَابَدُوا مِنْ سُوء إجَابَتهم، إظهارًا للتَّشَكِّي واللجَأ إلى رَبّهم في الانْتِقَام مِنهم، وذلك أعْظَم على الكَفَرة، وأفَتّ في أعْضَادِهم، وأجْلَب لِحَسْرَتِهم، وسُقُوطِهم في أيْدِيهم إذا اجْتَمَع تَوبِيخ الله، وتَشَكِّي أنْبِيَائه عليهم.

ومِثاله: أن يَنْكُب بَعض الْخَوارِج على السُّلْطَان خَاصَّة مِنْ خَواصِّه نَكْبة قد عَرَفها السُّلْطان، واطَّلَع على كُنْهِها، وعَزَم على الانْتِصَار لَه مِنه، فَيَجْمَع بَيْنَهُما، ويَقُول له: ما فَعَل بِك هَذا الْخَارِجِيّ؟ وهو عَالِم بِما فَعَل به، يُريد تَوبِيخَه وتَبْكِيتَه، فَيَقُول له: أنْت أعْلَم بِما فَعَل بي، تَفْويضًا للأمْر إلى عِلْم سُلْطَانه، واتِّكَالًا عليه (١)، وإظْهَارًا للشِّكَاية، وتَعْظِيمًا لِمَا حَلّ بِه مِنه.


(١) لا يجوز التوكل على غير الله، لقوله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا) [المائدة: ٢٣] ولقوله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران: ١٢٢، ١٦٠]، [المائدة: ١١]، [التوبة: ٥١]، [إبراهيم: ١١]، [المجادلة: ١٠]، [التغابن: ١٣]؛ وفي صحيح البخاري (ح ١٠٦٩)، ومسلم (ح ٧٦٩) قوله عليه الصلاة والسلام: "وعليك توكلت". وتقديم ما حقه التأخير يقتضي الحصر، فحصر التوكل على الله وحده.
قال ابن تيمية (مجموع الفتاوى ٧/ ١٦): التوكل على الله واجب من أعظم الواجبات، كما أن الإخلاص لله واجب، وحب الله ورسوله واجب، وقد أمر الله بالتوكل في غير آية أعظم مما أمر بالوضوء والغسل من الجنابة ونهى عن التوكل على غير الله، قال تعالى: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود: ١٢٣]. =

<<  <   >  >>