للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وظَاهِر السُّلْطان الْمَنْفِي - عند ابن عطية - أنَّ إبْلِيس لَيْس لَه مَلَكَة ولا رِيَاسَة، وذلك أنَّ السُّلْطَان إنْ جَعَلْنَاه الْحُجَّة فَلَيس لَه حُجَّة في الدُّنيا عَلى أحَد، لا مُؤمِن ولا كَافِر، اللهم إلَّا أن يَتَأوَّل مُتَأوِّل: لَيس لَه سُلْطَان يَوْم القِيَامَة، فَيَسْتَقِيم أن يَكُون بِمَعْنى الْحُجَّة، لأنَّ إبْلِيس له حُجَّة على الكَافِرِين أنه دَعَاهم بِغَير دَلِيل فَاسْتَجَابُوا لَه مِنْ قِبَلِ أنْفُسِهِم، وهَؤلاء الذِين لا سُلْطَان ولا رِيَاسَة لإبْلِيس عَليهم هم الْمُؤمِنُون أجْمَعُون، لأنَّ الله لم يَجْعَل سُلْطَانه إلَّا على الْمُشْرِكِين الذين يَتَوَلَّونَه، والسُّلْطَان مَنْفِيّ هَاهُنا في الإشْرَاك، إذْ له عَليهم مَلَكَة مَا في الْمَعَاصِي، وهُم الذين قَال الله فِيهم: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)، وهُم الذِين قَال إبْلِيس فِيهم: (إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر: ٤٠]، و (يَتَوَلَّونَهُ) مَعْنَاه: يَجْعَلُونه وَلِيًّا، والضَّمِير فِيه الظَّاهِر أنه يَعُود على اسْم إبْلِيس، بِمَعْنَى مِنْ أجْلِه وبِسَبَبِه … فَكَأنه قال: والذين هم بِسَبَبِه مُشْرِكُون بِالله، وهَذا الاخْبَار بأنْ لا سُلْطَان للشَّيْطَان على الْمُؤمِنِين بِعَقِب الأمْر بالاسْتِعَاذَة تَقْتَضِي أنَّ الاسْتِعَاذَة تَصْرِف كَيْدَه، كَأنَّهَا مُتَضَمِّنَة للتَّوكُّل على الله، والانْقِطَاع إليه (١).

ويَرى ابن عطية اختصاص المؤمنين بِمَعنى العبودية في آية "الحجر"، إذ يقول: والظاهر مِنْ قوله: (عِبَادِي) الخصوص في أهل الإيمان والتقوى، لا عُموم الْخَلْق، وبِحَسَب هذا يكون (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ) مُسْتَثْنَى مِنْ غير الأول، التقدير: لكنّ مَنْ اتَّبَعَك مِنْ الغاوين لك عليهم سلطان، وإن أخَذْنَا "العِباد" عَامًّا في عباد الناس، إذ لم يُقَدِّر الله لإبليس سُلطانًا على أحَد، فإنّا نُقَدِّر الاستثناء في الأقل في القَدْر مِنْ حيث لا قَدْر للكُفّار، والنظر الأول أصْوَب (٢).

كَما يَرى ابن عطية أنَّ آية "الإسراء" قَوْل مِنْ الله تَعالى لإبْلِيس، وقَوله: (عِبَادِي) يُرِيد الْمُؤمِنِين في الكُفْر، والْمُتَّقِين في الْمَعَاصِي، وخَصَّهم بِاسْمِ العِبَاد - وإن كَان اسْمًا


(١) المحرر الوجيز، مرجع سابق (٣/ ٤٢٠) باختصار وتصرف يسير.
(٢) المرجع السابق (٣/ ٣٦٢).

<<  <   >  >>