للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

"فما أمَر بِشيء فَقَال العَقْل: لَيْتَه لَم يَأمُر بِه، ولا نَهَى عن شيء فَقَال العَقْل: لَيْتَه لَمْ يَنْهَ عنه، بل هو مُطابِق للعَدْل والميزان" (١).

وأمَّا قَوْل أهْل الْجَاهِلِيَّة عن الفَوَاحِش: وَجَدْنا عَليها آبَاءنا والله أمَرَنا بِها؛ فَهذا مِمَّا ابْتَدَعُوه مِنْ قِبَل أنْفُسِهم رَدًّا للشَّرِيعَة، كَمَا قَالُوا: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف: ٢٢]، والْجَوَاب عن هَذا القَوْل في الآيَة التي تَلِيها: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف: ٢٣]، ولَو جَاءتْهم الآيَات والنُّذُر، فإنَّهم يَرُدُّون ذلك ولا يُؤمِنُون به كَمَا قَال تَعالى بَعد ذلك: (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) [الزخرف: ٢٤]، وكَمَا قَال أسْلافُهم مِنْ قَبْل: (قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنا لَهَا عَابِدِينَ) [الأنبياء: ٥٣].

ورَوى البخاري (٢) ومسلم (٣) مِنْ طريق هشام بن عروة عن أبيه قَال: كَانت العَرَب تَطُوف بِالبَيت عُرَاة إلَّا الْحُمْس - والْحُمْس قُرَيش ومَا وَلَدَتْ - كَانُوا يَطُوفُون عُرَاة إلَّا أن تُعْطِيهم الْحُمْس ثِيَابًا؛ فَيْعُطِي الرِّجَال الرِّجَال، والنِّسَاء النِّسَاء.

فهذا أيضًا مِمَّا ابْتَدَعُوه مِنْ قِبَل أنفُسِهم، ومِمَّا شَدَّدُوا به على أنْفُسِهم وعلى غيرهم.

وأمَّا الأمْر في آيَة "الإسراء"؛ فهو أمْرٌ قَدَرِيّ كَوْني، وليس أمْرًا شَرْعِيًا، والفَرْق بَيْنَهُما: أنَّ الأمْر الكَوني وَاقِعٌ لا مَحَالة، والأمْر الشَّرْعِي قد يَقَع وقَد لا يَقَع، هذا مِنْ جِهة، ومِن جِهَة أُخْرَى فالأمْر الشَّرْعي يُحِبُّه الله ويَرْضَاه، والقَدَري لَيس مِنْ شَرْطِه أن يَكُون مَحْبُوبًا لله، مَرْضِيًّا لَه.


(١) تيسير الكريم الرحمن، مرجع سابق (ص ٦٣٤).
(٢) (ح ١٥٨٢).
(٣) (ح ١٢١٩).

<<  <   >  >>