للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

"وهَذا الأمْر القَدَرِيّ الكَوْنِيّ غَير الأمْر الشَّرْعِيّ، فإنَّ الله لا يَأمُر بِالفِسْق شَرْعًا، ولا يُحِبّ الفَاسِقِين، وإنَّمَا هو أمْر تَكْوين، ألَا تَرى أنَّ الفِسْق عِلَّة حَقّ القَوْل عَليهم، وحَقّ القَوْل عليهم عِلَّة لِتَدْمِيرِهم، وهَكذا الأمْر سَبَب لِفِسْقِهم ومُقْتَضٍ له، وذَلك هو أمْر التَّكْوين" (١).

كَمَا أنَّ "الإرَادَة والقَضَاء والأمْر كُلّ مِنها يَنْقَسِم إلى: كَوْنِيّ وشَرْعِيّ" و"مِثَال الأمْر الكَوْنِيّ قَوله تَعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) " (٢).

وهَذه مَسْألَة مُقَرَّرَة في كُتُب العَقَائد (٣)، وقد عَقَد ابن القيم بَابًا "في انْقِسَام القَضَاء والْحُكْم والإرَادَة والكِتَابَة والأمْر والإذْن والْجَعْل والكَلِمَات والبَعْث والإرْسَال والتَّحْرِيم والإنْشَاء إلى كَوْنِيّ مُتعلِّق بِخَلْقِه، وإلى دِينِيّ مُتَعَلِّق بأمْرِه" (٤).

كَمَا أنَّ سُنّة الله اقْتَضَتْ أن لا يُعَذِّب أُمَّة ولا قَرْيَة حتى يَحِقّ القَوْل عَليها، ومِن أسْبَاب ذَلك كَثْرَة الفَسَاد والإفْسَاد، وذلك بِكَثْرَة الْمُتْرَفِين، الذين لا يَأتَمِرون بِأمْر، ولا يَنْتَهُون عن نَهْي، وإذا اسْتَشْرَتْ هذه الفِئة تَرَاجَعَتْ جُهُود الْمُصْلِحِين وتَضَاءَلَتْ، ورُبَّمَا تَجَرَّأ أهْل الفَسَاد على أهْل الإصْلاح فَسَعَوا في هَلاكِهم، كَمَا قَال تَعَالى في خَبَر صَالح عليه الصلاة والسلام: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (٤٨) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) [النمل: ٤٨، ٤٩]، فإذا كَان ذَلك قَلَّ الْمُصْلِحُون وكَثُر الفَسَاد، وحَلَّ عَذَاب الله بِالأُمَم والقُرَى، ولِذَا لَمَّا


(١) معارج القبول، الحكمي (١/ ٢٧٧).
(٢) المرجع السابق (١/ ٢٩٦) باختصار يسير.
(٣) يُنظر لذلك: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (٨/ ١٨٧ وما بعدها)، و"منهاج السنة النبوية"، مرجع سابق (٣/ ١٥٦)، و"شرح العقيدة الطحاوية"، مرجع سابق (ص ٥٠٥) وما بعدها، و"دفع إيهام الاضطراب"، مرجع سابق (ص ٩٣).
(٤) شفاء العليل، مرجع سابق (٢/ ٢٨٧ وما بعدها).

<<  <   >  >>