للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

واسْتَدَلّ القرطبي بِقَول النبي صلى الله عليه وسلم لِعُمَر رضي الله عنه: "أفِي شَكّ أنت يا ابن الخطّاب؟ أولَئك قَوم عُجِّلَتْ لهم طَيِّبَاتهم في حَيَاتهم الدُّنيا" (١).

وأوْرَد قَول عمر رضي الله عنه: والله الذي لا إله إلا هو لَولا أني أخَاف أن تنقص حَسَنَاتي يوم القيامة لَشَارَكْنَاكُم في العَيْش، ولكني سَمِعْتُ الله تعالى يَقُول لأقْوَام: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا).

(فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) أي الْهَوَان. (بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي: تَتَعَظَّمُون عن طَاعة الله وعلى عِباد الله. (وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) تَخْرُجُون عن طَاعَة الله.

وقال جَابر: اشْتَهَى أهْلي لَحْمًا فاشْتَرَيتُه لهم، فَمَرَرْتُ بِعُمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: مَا هذا يَا جَابر؟ فأخْبَرْتُه، فَقَال: أوَ كُلَّمَا اشْتَهى أحَدُكم شَيئًا جَعَلَه في بَطْنِه؟! أمَا يَخْشَى أن يَكُون مِنْ أهْل هَذه الآيَة: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ) الآيَة؟

قال ابن العربي: وهذا عِتَاب مِنه له على التَّوَسُّع بِابْتِياع اللحْم والْخُرُوج عن جِلْف الْخُبْز والْمَاء.

والذي يَضْبِط هذا البَاب ويَحْفَظ قَانُونَه على الْمَرْء: أن يَأكُل مَا وَجَد طَيِّبًا كان أو قَفَارا (٢)، ولا يَتَكَلَّف الطَّيِّب ويَتَّخِذه عَادَة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يَشْبع إذا وَجَد، ويَصْبر إذا عَدِم، ويَأكُل الْحَلْوى إذا قَدِر عليها، ويَشْرَب العَسَل إذا اتَّفق له، ويَأكُل اللحْم إذا تَيَسَّر، ولا يَعْتَمِد أصْلًا، ولا يَجْعله دَيْدَنًا، ومَعِيشَة النبي صلى الله عليه وسلم مَعْلُومَة، وطَرِيقَة الصَّحَابَة مَنْقُولَة، فأمَّا اليَوْم عند اسْتِيلاء الْحَرَام وفَسَاد الْحُطَام، فالْخَلاص عَسِير، والله يَهَب الإخْلاص ويُعِين على الْخَلاص بِرَحْمَتِه.

وقِيل: إنَّ التَّوْبِيخ وَاقِع على تَرْك الشُّكْر لا على تَنَاوُل الطَّيِّبَات الْمُحَلَّلَة، وهو حَسَن؛


(١) عزاه القرطبي (١٦/ ١٧٢) إلى صحيح مسلم، وهو مخرج في الصحيحين: البخاري (ح ٢٣٣٦)، ومسلم (ح ١٤٧٩).
(٢) في اللسان (٤/ ٥٨٩): يُقال: أكل خبزًا قفارًا وعفارًا وعفيرًا، أي: لا شيء معه، والعفار لغة في القفار، وهو الخبز بلا أدم.

<<  <   >  >>