للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقد أوْرَد القرطبي الْخِلاف في مَسْألَة الْمُسَافِر "إذا اقْتَرَن بِضَرُورَته مَعْصِيَة بِقَطْع طَرِيق وإخَافَة سَبِيل" … قال ابن العربي: وعَجَبًا مِمَّنْ يُبِيح له ذلك (١) مع التَّمَادِي على الْمَعْصِيَة، ومَا أظُنّ أحَدًا يَقُوله، فإن قَاله فهو مُخْطِئ قَطْعًا.

ثم تَعَقَّبَه بِقَولِه:

قلت: الصَّحِيح خِلاف هَذا، فإن إتْلاف الْمَرء نَفْسه في سَفَر الْمَعْصِية أشَدّ مَعْصِيَة مِمَّا هُو فِيه. قَال الله تَعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء: ٢٩]، وهَذا عَامّ، ولَعَلَّه يَتُوب في ثَاني حَالِ فَتَمْحُو التَّوْبَة عَنه مَا كَان (٢).

ومِن هَذا القِبِيل سِيَاقُه لِقَول ابن العربي: ولقد بَلَغَتِ الْجَهَالة بأقْوَام إلى أن قَالوا: يُقْتَل الْحُرّ بِعَبْد نَفْسِه، ورَوَوا في ذلك حَدِيثًا عن الْحَسَن عن سَمُرَة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قَتَل عَبْدَه قَتَلْنَاه" وهو حَديث ضَعيف.

ثم رَدّ القرطبي تَضْعِيف ابن العربي للحَدِيث، فَقَال: هَذا الْحَدِيث الذي ضَعَّفه ابن العربي وهو صَحِيح: أخْرَجَه النسائي وأبو دَاود، وتَتْمِيم مَتْنِه: "ومَن جَدَعَه جَدَعْنَاه، ومَن أخْصَاه أخْصَينَاه". وقال البخاري عن علي بن المديني: سَمَاع الْحَسَن مِنْ سَمُرَة صَحِيح، وأخَذَ بِهَذا الْحَدِيث، وقال البخاري: وأنا أذْهَب إليه. فَلو لَم يَصِحّ الْحَدِيث لَمَا ذَهَب إليه هَذان الإمَامَان، وحَسْبُك بِهما (٣).

كَما نَقَل عن ابن العربي بَعض أقْوَاله في تَوْجِيه الآي، ودَفْع التَّعَارُض الْمُتَوَهَّم، فقد دَفَع القرطبي التَّعَارُض الْمُتَوَهَّم في قَوله تَعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) [البقرة: ٢٤٣] حيث قال: قال ابن العربي: أمَاتَهُم الله تعالى مُدَّة عُقُوبَة لَهم ثم أحْيَاهم، ومَيْتَة العُقُوبة بَعْدَها حَيَاة، ومَيْتَة الأجَل لا حَيَاة بَعْدَها (٤).


(١) أي: الأكْل مِنْ المُحرَّمَات المذكورات في الآية.
(٢) الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (٢/ ٢٢٨، ٢٢٩).
(٣) المرجع السابق (٢/ ٢٤٤).
(٤) المرجع السابق (٣/ ٢٢٠).

<<  <   >  >>