للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفي هَذه الآيَة دَلالة على جَوَاز الرُّؤيَة، لأنَّ مُوسَى مع عِلْمِه بِالله تعالى سَألَها، ولو كَانت مِمَّا يَسْتَحِيل لَمَا جَاز لِمُوس أن يَسْألَها، ولا يَجُوز أن يَجْهَل مُوسَى مِثل ذلك، لأنَّ مَعْرِفَة الأنبياء بِالله لَيس فيها نَقْص، ولأنَّ الله تعالى لم يُنْكِر عليه الْمَسْألَة، وإنَّمَا مَنَعَه مِنْ الرُّؤيَة، ولو اسْتَحَالَتْ عليه لَقَال: لا أُرَى (١). ألا تَرى أنَّ نُوحًا لَمَّا قَال: (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) [هود: ٤٥] أنْكَر عليه بِقَولِه: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) [هود: ٤٦]، ومِمَّا يَدُلّ على جَواز الرُّؤيَة أنه عَلَّقَها بِاسْتِقْرَار الْجَبَل، وذلك جَائز غير مُسْتَحِيل، فَدَلّ على أنَّها جَائزَة، ألَا تَرَى أنَّ دُخُول الكُفَّار الْجَنَّة لَمّا اسْتَحَال عَلَّقَه بِمُسْتَحِيل؟ فَقَال: (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) [الأعراف: ٤٠] (٢).

ويَرَى ابن الجوزي أنَّ قَوله: (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) اسْتِئْنَاف، حَيث يَقُول: ثم اسْتَأنَف (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) قال ابن عباس: إنَّهم عن النَّظَر إلى رَبِّهِمْ يَومَئذٍ لَمَحْجُوبُون، والْمُؤمِن لا يُحْجَب عن رُؤيَتِه. وقال مَالك بن أنس: لَمَّا حَجَب أعْدَاءه فلم يَرَوه تَجَلَّى لأوْلِيائه حَتى رَأَوْه. وقَال الشافعي: لَمَّا حَجَب قَومًا بالسُّخْط دَلّ على أنَّ قَومًا يَرَوْنَه بِالرِّضَا. وقال الزَّجّاج: في هَذه الآيَة دَلِيل على أنَّ الله عز وجل يُرَى في القِيَامَة، ولَولا ذلك مَا كان في هَذه الآيَة فَائدَة، ولا خَسَّتْ مَنْزِلَة الكُفَّار بِأنَّهم يُحْجَبُون عن رَبِّهم ثم مِنْ بَعْد حَجْبِهم عن الله يَدْخُلُون النَّار؛ فَذَلك قَوله تَعالى: (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ) [المطففين: ١٦] (٣).

وهذا ما قرَّرَه في آيَة "القيامة"، إذ يَقُول: قَوله تَعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) أي: مُشْرِقَة بِالنَّعِيم. (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) رَوى عَطاء عن ابن عباس قال: إلى الله نَاظِرَة. قال


(١) انظر مناقشة نفاة الرؤية بتوسع في "شرح العقيدة الطحاوية" (ص ٢٠٦ وما بعدها).
(٢) زاد المسير، مرجع سابق (٣/ ٢٥٦).
(٣) المرجع السابق (٩/ ٥٦، ٥٧).

<<  <   >  >>