وقال القاضي سنان: وطلعت إلى الأمير -أي: أمير المدينة- وكان عز الدين منيف، وقلت له: قد أحاط بنا العذاب، فارجع إلى الله تعالى.
قال: فأعتق كل مماليكه، ورد على الناس مظالمهم، وأبطل المكس، ثم هبط الأمير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبات في المسجد ليلة السبت، ومعه جميع أهل المدينة، حتى النساء والصغار، وحتى أهل النخيل، وباتوا يَتَضرعُون ويبكون، وأحاطوا بالحجرة الشريفة، كاشفين رؤوسهم، مقرين بذنوبهم، مستجيرين بنبيهم، فصرف الله عنهم تلك النار العظيمة ذات الشمال، فسارت من مخرجها وسارت ببحر عظيم من النار، وأخذت في وادي أُحْيليين، وأهل المدينة يشاهدونها من دورهم؛ كأنها عندهم، واستمرت مدة ثلاثة أشهر.
قال المطري: وكانت تُذِيبُ الحجر، ولا تَحرقُ الشجر.
وذكر القسطلاني: أن هذه النار لم تزل مارةً على سبيلها حتى اتصلت بالحرة ووادي الشظاة، وهي تسحق ما والاها، وتُذِيبُ ما لاقاها من الشجر الأخضر والحصى؛ من قوة الحر، وأن طرفها الشرقي آخذ بين الجبال، فحالت دونها فوقفت، وأن طرفها الغربي -وهو الذي يلي الحرم- اتصل بجبل يقال له: وعيرة؛ على قرب من شرقي جبل أُحُد، ومضت في الشظاة التي في طرفه وادي حمزة، ثم استمرت حتى استقرت تجاه حرم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَطُفِئت.
قال: وأخبرني من أعتمد عليه أنه عاين حجرًا ضخمًا من حجارة الحرة كان بعضه خارجًا عن حد الحرم، فعلقت بما خرج منه، فلما وصلت إلى ما دخل منه في الحرم طفئت، وخمدت.
قال: وهذا أولى بالاعتماد من كلام المطري أنها كانت تحرق الحجر دون الشجر، وأن رجُلًا مد إليها نبلًا فأحرقت النصل ولم تحرق الخشب. فإن المطري لم يُدرك هذه النار.
وقال المؤرخون: واستمرت هذه النار مدة ظهورها تأكل الأحجار والجبال، وتسير سيرًا ذريعا في وادٍ يكون مقداره أربعة فراسخ، وعرضه أربعة أميال، وعمقه