أما عن الممتنعين من الهجرة من ديار الكفار مع القدرة؛ فلا يجوز للمسلم أن يقيم في دار الكفر إذا وجدت دار الإسلام، خصوصاً إذا كان مكثه في دار الكفر يعرضه للفتنة في دينه، فالله تبارك وتعالى لم يقبل عذر الذين تخلفوا عن الهجرة، وأخبرنا في القرآن الكريم كيف أن الملائكة تبكت وتوبخ هذا الصنف من الناس، وذلك حينما تأتيهم عند الاحتضار وعند خرج أرواحهم؛ وكذلك الملائكة لا تعذرهم حينما يدعون أنهم كانوا مستضعفين في الأرض، يقول الله تبارك وتعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}[النساء:٩٧ - ٩٨]، فلم يعذر الله من هؤلاء الذين أقاموا وسط الكفار بمحض إرادتهم، إلا المستضعفين الذين لا يجدون حيلة للخروج، ولا يهتدون إلى الطريق الذي يوصلهم إلى دار الإسلام، أما اليوم فللأسف الشديد صارت كلمة الهجرة يراد بها الهجرة إلى أستراليا أو أمريكا أو أوروبا، بدلاً من أن تكون الهجرة من دار الكفر إلى بلاد المسلمين انعكس الحال وصارت الهجرة عندهم إلى بلاد الكفرة، غير مبالين بذلك الوعيد الشديد، وغير مبالين بقول النبي صلى الله عليه وآله سلم:(أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين)، وقال صلى الله عليه وسلم:(برئت الذمة ممن أقام مع المشركين في ديارهم)، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة.
وفي الحقيقة كان كثير من الإخوة يثير هذه القضية لسبب أو لآخر، فكان مما قلت في بعض المناسبات لأحد الإخوة: إن هذه السفارات التي تشتكي من الزحام على أبوابها بالذات سفارة أمريكا وغيرها لو أنهم فقهوا لعلقوا جزءاً من آية في سورة البقرة على باب القنصلية الأمريكية والسفارة الأمريكية، فلعل بعضاً أو كثيراً من المسلمين يرعوي إذا رأى هذه الآية، هذا الجزء من الآية هو قول الله تبارك وتعالى:{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ}[البقرة:١٠٢]، لو أنهم علقوها على أبواب القنصليات والسفارات لأبى الشباب أن يخرج من بلاد المسلمين إلى حيث لا أذان إلا ما شاء الله، وحيث الفتن العظيمة والدنيا التي تفتن الناس، فتنة الأهل والأولاد والمعاصي، وحيث الكفر عال وظاهر، وحيث المنكر معروفاً والمعروف منكراً، حيث ضعف الدين فلا تكاد تجد إنساناً يذهب إلى هذه الأماكن ويرجع أحسن مما كان، فمن ذهب إليها وعاد بإيمانه سليماً فهذه بطولة، أما أن يزيد فليس هناك مظنة الزيادة في الدين، لكن مظنة الدين أن تنتقل إلى المكان الذي يكون فيه دينك أقوى، حتى لو كان في غير البلاد الإسلامية، في بعض البلاد قد يعاني المسلم إما من ضيق الرزق أو غير ذلك من الأذى؛ فيبحث عن المكان الذي يعينه على دينه أكثر، فيكون المقياس ما هو الأسلم لدينك؟ {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ}[الزمر:١٠].
كما قال تعالى، وهي ما زالت واسعة وسوف تبقى واسعة لكن العبرة بالصدق، فمن تحرى وأخذ بالأسباب؛ فإن الله تبارك وتعالى وعد من يتقيه بأن يجعل له مخرجاً:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}[الطلاق:٢ - ٣]، فإذا أنت حاولت وعانيت ثم لم تجد مخرجاً؛ فهذا يدل على أن في تقواك نقصاً ولم تحقق التقوى، حقق فعل الشرط وعلى الله جوابه:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}[الطلاق:٢] فمن لم يتق الله لا يجعل الله له مخرجاً، فمن أراد أن يعالج أزمة ضيق الرزق بالخروج إلى بلاد الكفار وربما هناك يشتغل في المحرمات والشبهات كالخمر والخنزير، وربما بأفعال غير مناسبة للمسلم وتتصادم مع عقيدته ودينه فهذا لم يتق الله، فكيف يظن أن الله سيجعل له مخرجاً؟! على أي حال هذه من الذنوب التي يتهاون فيها كثير من الناس؛ لضعف تعظيم الدين في قلوبهم إلا من رحم الله، هناك حالات استثنائية بلا شك لكن ليس كل من يذهبون يخضعون لهذا الاستثناء، فالناس هناك إما معذورون وإما آثمون ببقائهم في وسط ديار الكفار، حتى تصل الفتنة والعياذ بالله ببعض الناس من شدة حاجتهم إلى المال أن ينضم إلى الجيش الأمريكي؛ لما يعطى من المميزات والأموال.