[البحث في نظرية تكرار جيل الصحابة]
ويقول أيضاً تحت عنوان: جيل الصحابة هل يتكرر؟ يقول: بعد هذا التلخيص والتأييد المجمل: نبدأ في تفصيل ما عَنَّ لنا من استدراكات على كتاب المعالم في قضية المنهج.
إن الكاتب يدعو إلى حركة شديدة، حيث يسمي الذين يبدءونها بالطليعة، مع أنه كان حين كتب هذا الكتاب منتمياً فعلاً إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكان معه في السجن آلاف من أعضاء هذه الجماعة التي كان رئيساً لتحرير جريدتها، والتي طالما كان يتحدث عن أهميتها ومظاهرها ومنجزاتها.
يذكر الكاتب عليه رحمة الله في كلماته الأخيرة التي كانت تنشرها جريدة المسلمون اللندنية: أنه عمل لتكوين جماعة تكون امتداداً لجماعة الإخوان المسلمين التي حلها عبد الناصر وسجن أعضاءها، ولكن لماذا اعتبر الجماعة قد انتهت بقرار الحل؟ وإذا كان قد انتهت تنظيماً فإن أفرادها ما زالوا موجودين، فلماذا الدعوة إلى حركة جديدة؟! أظن أن تفسير هذا الأمر المستغرب موجود في قضية المنهج، وأظن أن سيداً كان يرى أن الجماعة الوحيدة التي يمكن أن تعيد بعث الأمة الإسلامية هي الجماعة التي تتبع المنهج الذي ذكره، وإذا كان هذا المنهج يريد منها ويمكنها أن تكون كجيل الصحابة؛ فإنها تكون فعلاً جماعة جديدة لا تماثلها جماعة الإخوان المسلمين، ولا أي جماعة في تاريخ الإسلام بعد جماعة الصحابة رضوان الله عليهم.
يقول الدكتور جعفر: يقول الكاتب -يعني: الشيخ سيد قطب رحمه الله-: لقد خرَّجت هذه الدعوة جيلاً من الناس -جيل الصحابة رضوان الله عليهم- جيلاً مميزاً في تاريخ الإسلام كله، وفي تاريخ البشرية جميعه، ثم لم تعد تخرج هذا الطراز مرة أخرى، نعم وجد أفراد من ذلك الطراز على مدار التاريخ، ولكن لم يحدث قط أن تجمع مثل ذلك العدد الضخم في مكان واحد كما وقع في الفترة الأولى من حياة هذه الدعوة.
يعلق الدكتور جعفر فيقول: والكاتب يرى أنه بالإمكان تخريج مثل ذلك الجيل حتى في غيبة شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، بل لعله يرى أن البشرية -وقد عادت إلى جاهلية مثل الجاهلية التي أنقذها مثل ذلك الجيل- لا يمكن أن ينقذها الآن إلا جيل مثله، فهل ما قاله الكاتب الفاضل صحيح؟ أصحيح أنه بالإمكان إنشاء جيل كامل كجيل الصحابة رضوان الله عليهم؟ أصحيح أن غيبة شخص الرسول صلى الله عليه وسلم لا تفسر عدم تكرار ذلك الجيل على مدار التاريخ؟ إن هناك حججاً نقلية كثيرة بل وحججاً عقلية تدل على أن ذلك الجيل لا يمكن أن يتكرر، ولكن دعونا قبل البدء في سرد بعض تلك الحجج أن ننظر في الحجة التي ذكرها الكاتب الفاضل في تأييد رأيه.
يقول الكاتب بعد الفقرة التي نقلتها آنفاً: هذه ظاهرة واضحة واقعة ذات مدلول ينبغي الوقوف أمامه طويلاً لعلنا نهتدي إلى سره، إن قرآن هذه الدعوة بين أيدينا، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه العملي وسيرته الكريمة كلها بين أيدينا كما كانت بين أيدي ذلك الجيل الأول الذي لم يتكرر في التاريخ، ولم يغب إلا شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل هذا هو السر؟ لو كان وجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم حتمياً لقيام هذه الدعوة وإيتائها ثمراتها ما جعلها الله دعوة للناس كافة، وما جعلها آخر رسالة، وما وكل إليها أمر الناس في الأرض إلى آخر الزمان، ولكن الله سبحانه تكفل بحفظه الذكر، وعلم أن هذه الدعوة يمكن أن تقوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن تؤتي ثمارها؛ فاختاره لجواره بعد ثلاثة وعشرين عاماً من الرسالة، وأبقى هذا الدين من بعده إلى آخر الزمان إذاًَ: فإن غيبة شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفسر تلك الظاهرة ولا تعللها.
ثم يقول الدكتور جعفر وهو يناقش الفقرة السابقة: إن مقدمات هذه الحجة لا تؤدي إلى نتيجتها، فالمقدمات باختصار هي: لو كان وجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم حتمياً لقيام هذه الدعوة لما جعلها الله دعوة للناس كافة، ولما جعلها آخر رسالة، ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنتيجة الطبيعية لهذه المقدمات هي: إذاً فوجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس حتمياً لقيام هذه الدعوة، أو: فغيبة شخصيته صلى الله عليه وسلم لا تمنع استمرار هذه الدعوة، وهذه حجة صحيحة يوافقه كل مسلم على مقدماتها ونتائجها، لكن النتيجة التي انتهى إليها الكاتب الفاضل الكبير هي: أن غيبة شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفسر تلك الظاهرة ولا تعللها -يعني: ظاهرة تكرار جيل الصحابة-، إن عدم ضرورة وجود شخص الرسول لاستمرار الدعوة لا يعني عدم ضرورته لوجود جيل كجيل الصحابة، فالأمران مختلفان، اللهم إلا إذا قلنا: إن الدعوة لا تقوم ولا تؤتي ثمارها إلا بوجود جيل كجيل الصحابة، ولكن هذا يفضي بنا إلى القول بأن الدعوة نفسها توقفت منذ أن انتهى جيل الصحابة؛ لأنه لم يأت بعده جيل مثله، وهو أمر لا يقول به الداعية الفاضل ولا أحد من المسلمين، لو كان كتاب المعالم كتاباً عادياً لاكتفيت بهذا الرد، لكني أعرف أن حجة الكاتب هذه تأثر بها كثير من الدعاة ولا سيما الشباب، فما أكثر ما سمعت وقرأت تكراراً لها يكاد يكون بألفاظ الكاتب الفاضل! ولذلك فإن الأمر يستحق مزيداً من البيان.
إن لدينا نصوصاً صحيحة تدل على أن وجود شخص الرسول صلى الله عليه وسلم كان ضرورياً لتخريج ذلك الجيل، ونصوصاً تدل على أنه كان فعلاً جيلاً فريداً لا يتكرر، وإليكم شيئاً من هذه النصوص: عن أنس رضي الله عنه قال: (لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، قال: وما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا).
هكذا كان شعور الصحابة بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم وغيبة شخصه، وكانوا يشعرون بشيء من هذا حين يغيبون عنه وهو حي، ففي حديث طويل لـ حنظلة الأسيدي قال: قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وما ذاك؟ قال: قلت: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا النار والجنة حتى كأنا نراها رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لو أنكم تدومون على ما تكونون عندي في الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي سوقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة)، هذا الذي شعر به حنظلة وأيده به أبو بكر رضي الله عنهما شعور طبعي؛ فإن الواحد منا يعرف من تجربته أنه يقرأ كلاماً فلا يتأثر به، فإذا سمعه من إنسان تأثر به، وقد يسمع كلاماً من إنسان ثم يسمعه نفسه من إنسان آخر فإذا البون بين التأثيرين شاسع، فكيف بمؤمن صادق يسمع القرآن والحكم من فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرى الوحي ينزل أمامه، ويعرف الحوادث والمناسبات التي نزلت فيها كثير من آيات الله وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولا شك أن هذا الكلام انعكس وانعكست تأثيراته فيما أتى من المواقف التي سنبينها فيما يأتي من كلام الأستاذ سيد رحمه الله.
يقول الدكتور جعفر معلقاً على هذا الكلام: ولكن إذا كانت الأمة التي تحمل هذا الدين قد انقطع وجودها منذ قرون؛ فإن دينها نفسه يكون قد انقطع وجوده منذ تلك القرون، والكاتب الفاضل يدرك هذه النتيجة اللازمة عن كلامه ويقبلها ويقررها، إذ يقول: هذا هو المجتمع المسلم المجتمع الذي تتمثل فيه العبودية لله وحده في معتقدات أفراده وتصوراتهم، كما تتمثل في شعائرهم وعبادتهم، وكما تتمثل في نظامهم الجماعي وتشريعاتهم، وأيما جانب من هذه الجوانب تخلف عن الوجود فقد تخلف الإسلام نفسه عن الوجود لتخلف ركنه الأول وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الدكتور جعفر: فالكاتب الفاضل يقرر في هذه الفقرة: أن تخلف النظام الجماعي والتشريعات عن الوجود يعني تخلف الإسلام نفسه عن الوجود، ويقرر في الفقرة السابقة أن هذا النظام قد تخلف فعلاً عن الوجود، والنتيجة هي: أن الإسلام قد تخلف عن الوجود، وهي نتيجة نقطع بأنها ليست صحيحة، فالله سبحانه وتعالى في سورة الفتح لما تكلم عن المنافقين ووصفهم بأنهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، فما هو ظن الجاهلية؟ إذا رجعنا إلى شرح العلماء لهذه الآية، وإذا رجعنا إلى كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد حول هذه الآية: يبين العلماء أن ظن الجاهلية هو أن يظن إنسان أن الكفار يمكن أن يأتي في يوم من الأيام ويستأصلون الإسلام استئصالاً، ويقضون على الإسلام قضاءً بحيث لا تقوم له قائمة بعده.
هذا هو ظن الجاهلية، وهذا هو سوء الظن بالله.
من سوء الظن بالله -مهما وصل ضعف الإسلام، ومهما وصل طغيان الباطل- أن تظن أن الباطل يمكن أن يأتي في يوم من الأيام بحيث يطغى تماماً ويقهر تماماً، ويظل الإسلام دائماً مقهوراً، أو أن المسلمين يظلون مقهورين مستذلين لا تقوم لهم قائمة.
هذا سماه الله ظن الجاهلين فقال: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:١٥٤]، فمن ظن الجاهلية أن يقال مثل هذا الكلام.
ونحن نبرئ الأستاذ سيد قطب رحمه الله من هذا، وهو كان العدو الأول للجاهلية في عصره، نبرئه من هذا الوصف، لكن نقول: هذا يلزم من كلامه، ولو أنه استأنس بهذا المعنى ما نظن أنه كان وصل إلى هذا القرار النهائي، وهو أن الأمة الإسلامية انقطعت من الوجود منذ قرون كثيرة، والمجتمع الإسلامي انقطع من الوجود، والمسلمين انقطعوا والجماعة انقطعت، وبالتالي انقطع وجود الإسلام نفسه: هذا شيء لا يمكن أن يوافقه عليه أحد على الإطلاق.
يقول الدكتور جعفر: إن الكاتب الفاضل يقرر أن الله تعالى قد تكفل بحفظ الكتاب والسنة، ولكن ينبغي ألا ننسى أن هذا الحفظ ليس حفظاً متخفياً، بمعنى: أن تكون نصوص الكتاب والس