[معرفة الرجال بالحق]
أول هذه التنبيهات والحقائق نرويها على لسان الأستاذ سيد قطب رحمه الله نفسه، يقول رحمه الله تعالى في تفسير سورة آل عمران: وهناك حقيقة أخيرة نتعلمهما من التعقيب القرآني على مواقف الجماعة المسلمة التي صاحبت الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي تمثل أكرم رجال هذه الأمة على الله، وذلك حينما عاتب الله عز وجل الصحابة في أواخر سورة آل عمران بعد ما وقع في غزوة أحد.
وهي حقيقة ناصعة لنا في طريقنا إلى استئناف حياة إسلامية بعون الله، إن منهج الله ثابت وقيمه وموازينه ثابتة، والبشر يبعدون أو يقربون من هذا المنهج، يخطئون ويصيبون في قواعد التصوف، وقواعد التطبيق والسلوك، ولكن ليس شيئاً من أخطائهم محسوباً على المنهج، ولا مغيراً لقيمه وموازينه، وحين يخطئ البشر في التصور أو السلوك فإنه يصفهم بالخطأ، وحين ينحرفون عنه فإنه يصفهم بالانحراف، ولا يتغاضى عن خطئهم مهما تكن منازلهم، ولا ينحرف هو ليجاري انحرافهم.
ونتعلم نحن من هذا أن تبرئة الأشخاص لا تساوي تشويه المنهج، وأنه من الخير للأمة الإسلامية أن تبقى ملاجئ منهجها سليمة ناصعة قاطعة، وأن يوصف المخطئون المنحرفون عنها بالوصف الذي يستحقونه أياً كانوا، وألا تبرر أخطاؤهم وانحرافاتهم أبداً بتحريف المنهج، وتبديل قيمه وموازينه، فهذا التحريف والتبديل أخطر على الإسلام من وصف كبار الشخصيات المسلمة بالخطأ أو الانحراف، فالمنهج أكبر وأبقى من الأشخاص.
والإسلام لا يعطي العصمة لأحد أبداً بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكن ربما يحصل منا معشر المسلمين أحياناً أن نعطي هذه العصمة للرجال، ويصعب ويعز علينا أن نرى الشخصية الكبيرة التي نجلها ونحبها تخطئ وتصيب، كما يصعب علينا أن نقول هذا الرأي من قوله خطأ وهذا صواب.
أيضاً كثير من الناس يتعاملون في الواقع العملي مع الشخصيات الإسلامية الكبرى على أساس التسليم لها بكل شيء، أو رفض كل شيء، ويتحول هذا الأسلوب إلى منهج مقرر يتحدى القواعد النظرية الإسلامية التي يحفظها كل الناس، والتي أرساها السلف الصالح رضي الله عنهم، من مثل ما حفظناه عن الإمام مالك رحمه الله تعالى من قوله: كل أحد يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر، وكان يضع يده على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا القول مثل القول الذي يكرره الأستاذ سيد رحمه الله بأسلوب هذا العصر في الكلام الذي سبق أن تلوناه، لكن تطبيقه في الواقع العملي صعب، بل ربما نردده كثيراًَ لكن حينما نطبقه فإن دون ذلك خرط القتاد.
إذا تذوقنا العلم وحده، فهذا التذوق هو الذي سيعودنا على احترام أهل العلم الاحترام الصحيح اللائق بهم، بحيث نصل مع هذا إلى درجة نقدم فيها العلم الذي عندهم، ونغفر لهم الخطأ الذي وقعوا فيه، دون أن يكون خطؤهم غلاً في أعناقنا، نأخذ ما أصابوا فيه، ونتجنب ما أخطئوا فيه، دون أن نجعل خطأهم تحقيراً لهم، ودون أن نجعل صوابهم عصمة لهم، فهذا الموقف هو الذي ينزه احترام أهل العلم من التحول إلى اتخاذهم أرباباً من دون الله تبارك وتعالى.
فأي بحث يكون فيه مثل هذا النقد ينبغي أن لا يوجه إلى تجريح الشخصيات، ولا إلى تمجيدها، وإنما يكون الهدف من البحث في مثل هذه القضايا اكتساب موقف سليم بين الحق وبين الرجل، فيبقى الحق حقاً والرجل رجلاً؛ لأن الحق حق فقط، وأما الرجل فيمكن أن يكون محقاً، ويمكن أن يكون مبطلاً، وبين ذلك درجات كثيرة؛ ولهذا ينبغي أن نعرف الرجال بالحق، ولا نعرف الحق بالرجال، لكن اعرف الحق تعرف أهله.
هذا بالنسبة للتنبيه الأول الذي نحتاج إليه في هذا المقام.