[اتصال العمل بالإيمان في نصوص الشرع]
وقرأ الفضيل بن عياض رحمه الله أول الأنفال حتى بلغ: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:٤]، ثم قال حين فرغ: إن هذه الآية تخبرك أن الإيمان قول وعمل.
يعني: كلمة: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:٤]، فهل مدحهم الله بالقول فقط، أم بالأعمال أيضاً؟ قال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:٢ - ٤]، فقوله: (حقاً): يعني: أن حق الإيمان هو ما اقترن فيه القول بالعمل، فقال الفضيل: إن هذه الآية ستخبرك أن الإيمان قول وعمل.
ثم يقول: وإن المؤمن إذا كان مؤمناً حقاً فهو من أهل الجنة، {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:٤]، فمن لم يشهد أن المؤمن حقاً من أهل الجنة فهو شاك في كتاب الله؛ مكذب أو جاهل لا يعلم، فمن كان على هذه الصفة فهو مؤمن حقاً مستكمل الإيمان، ولا يستكمل الإيمان إلا بالعمل، ولا يستكمل عبد الإيمان ولا يكون مؤمناً حقاً حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه، فيا سفيه ما أجهلك! لا ترضى أن تقول: أنا مؤمن حتى تقول: أنا مؤمن حقاً مستكمل الإيمان، والله! لا تكون مؤمناً حقاً مستكمل الإيمان حتى تؤدي ما افترض الله عليك، وتجتنب ما حرم الله عليك، وترضى بما قسم الله لك، ثم تخاف مع هذا ألا يقبل الله منك، كما يقول بعض السلف: الناس هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم.
فرحمة الله عز وجل تسع كل شيء، لكن لا تأمن مكر الله تبارك وتعالى، وخف سوء الخاتمة، وسوء السابقة.
يقول: والله! لا تكون مؤمناً حقاً مستكمل الإيمان حتى تؤدي ما افترض الله عليك، وتجتنب ما حرم الله عليك، وترضى بما قسم الله لك، ثم تخاف مع هذا ألا يقبل الله منك.
ووصف فضيل الإيمان بأنه: قول وعمل، وقرأ: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:٥]، فسماه: دين القيمة بعد أن وصفه بالقول والعمل، فالقول: الإقرار بالتوحيد، والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم، والعمل أداء الفرائض واجتناب المحارم، وقرأ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:٥٤ - ٥٥]، وقال عز وجل: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:١٣]، فالدين التصديق بالعمل كما وصفه الله تعالى، وكما أمر أنبياءه ورسله بإقامته.
والتفرق فيه ترك العمل، والتفريق بين القول والعمل، هذا هو تفسير: ((وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ))، يعني: لا تفصلوا القول عن العمل، بل صلوا ما أمر الله به أن يوصل من القول مع العمل، قال الله تعالى: ((فَإِنْ تَابُوا)) أي: المشركين: {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:١١]، فالتوبة من الشرك جعلها الله تعالى قولاً وعملاً بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، بجانب كلمة التوحيد.
وقال أصحاب الرأي: ليس الصلاة ولا الزكاة ولا شيء من الفرائض من الإيمان؛ افتراءً على الله وخلافاً لكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وللدفاع عن الأحناف وأصحاب الرأي في هذه القضية نقول: إنهم حينما يقولون: الإيمان بمعنى التصديق؛ فإنهم يقصدون التصديق المستلزم للانقياد والعمل، وهناك بحث وافٍ طويل في شرح الطحاوية حول هذه القضية.
يقول: ولو كان القول كما يقولون لم يقاتل أبو بكر أهل الردة.
وقال الفضيل: يقول أهل البدعة: الإيمان الإقرار بلا عمل، والإيمان واحد، إنما يتفاضل الناس بالأعمال ولا يتفاضلون بالإيمان، قال: فمن قال ذلك فقد خالف الأثر.
يعني: أن الإيمان نفسه لو كان هو التصديق فقط، فإن التصديق يتفاوت، كما قال عز وجل: {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:٢٦٠] فمن قال ذلك: يعني: من قال: إن الإيمان واحد، والناس كلهم متساوون في الإيمان، لكن يتفاضلون بالأعمال فقط، وأما في الإيمان فلا يتفاضلون.
قال: فمن قال ذلك فقد خالف الأثر، ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ أفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) فكلمة: (أفضلها)، يدل على وقوع التفاضل بين شعب الإيمان، ومن يقول: إن الإيمان لا يتفاضل، يقول: إن فرائض الله ليست من الإيمان، فميز أهل البدع العمل من الإيمان، وقالوا: إن فرائض الله ليست من الإيمان، فمن قال ذلك فقد أعظم الفرية، أخاف أن يكون جاحداً للفرائض راداً على الله أمره، ويقول أهل السنة: إن الله تعالى قد قرن العمل بالإيمان، وإن فرائض الله من الإيمان، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:٨٢]، فوصل العمل بالإيمان.
ويقول أهل الإرجاء: لا، ولكنه منقطع غير موصول، فيقولون: (الذين آمنوا)، ويفصلونها عن: ((وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) يعني: هذه جملة فيها مبتدأ جديد، وليست موصولة بما قبلها.
وقال أهل السنة: قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء:١٢٤]، وأهل الإرجاء يقولون: بل هو مقطوع، فقال أهل السنة: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء:١٩] ربط السعي والعمل بالإيمان، فهذا موصول، وكل شيء في القرآن من أشباه هذا، فأهل السنة يقولون: هو موصول مجتمع، وأهل الإرجاء يقولون: بل هو مقطوع متفرق، ولو كان الأمر كما يقولون كان من عصى وارتكب المعاصي أو المحارم لم يكن عليه سبيل، فكان إقراره يكفيه من العمل، فما أسوأ هذا من قول وأقبحه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.