[آثار السلف وأقوالهم في زيادة الإيمان ونقصانه]
تكلم الإمام الآجري رحمه الله تعالى في بحث الإيمان يزيد وينقص، فروى رحمه الله تعالى بسنده عن محمد بن عبد الملك المصرفي أبي عبد الله، قال: كنا عند سفيان بن عيينة في سنة سبعين ومائة، فسأله رجل عن الإيمان، فقال: قول وعمل، قال: يزيد وينقص؟ قال: يزيد ما شاء الله، وينقص حتى لا يبقى منه مثل هذه، وأشار سفيان بيده، قال الرجل: كيف نصنع بقوم عندنا يزعمون أن الإيمان قول بلا عمل؟ فقال سفيان: كان القول قولهم قبل أن تقرر أحكام الإيمان وحدوده، إن الله عز وجل بعث نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كلهم كافة أن يقولوا: لا إله إلا الله، وأنه رسول الله، فلما قالوها عصموا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل.
فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالصلاة، فأمرهم ففعلوا، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم.
فلما علم الله جل وعلا صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالهجرة إلى المدينة فأمرهم ففعلوا، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول، ولا صلاتهم.
فلما علم الله تبارك وتعالى صدق ذلك من قلوبهم أمرهم بالرجوع إلى مكة ليقاتلوا آباءهم وأبناءهم حتى يقولوا كقولهم، ويصلوا صلاتهم، ويهاجروا هجرتهم، فأمرهم ففعلوا حتى أتى أحدهم برأس أبيه، فقال: يا رسول الله! هذا رأس شيخ الكافرين، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول، ولا صلاتهم ولا هجرتهم، ولا قتالهم.
فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم، أمره أن يأمرهم بالطواف بالبيت تعبداً، وأن يحلقوا رءوسهم تذللاً ففعلوا، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم، ولا هجرتهم، ولا قتلهم آباءهم.
فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم بها، فأمرهم ففعلوا حتى أتوا بها قليلها وكثيرها، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول، ولا صلاتهم، ولا هجرتهم، ولا قتلهم آباءهم ولا صلاتهم.
فلما علم الله تبارك وتعالى الصدق من قلوبهم فيما تتابع عليهم من شرائع الإيمان وحدوده، قال عز وجل سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:٣].
فمن ترك خلة -أي: صفة- من خلال الإيمان كان بها عندنا كافراً -واضح من السياق أنه يقصد الجحود-ومن تركها كسلاً أو تهاوناً بها أدبناه، وكان بها عندنا ناقصاً، هكذا السنة أبلغها عني من سألك من الناس.
فعلق الحافظ الإمام محمد بن الحسين الآجري رحمه الله فقال: هذا بيان لمن عقل: اعلم أنه لا يصح الدين إلا بالتصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح مثل: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد وما أشبه ذلك.
قال الأوزاعي رحمه الله: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فمن زعم أن الإيمان يزيد ولا ينقص فاحذروه فإنه مبتدع.
قد يتشدق بعض الناس ويقولون: لا دليل صريح على أن الإيمان ينقص، لكن عندنا أدلة على أنه يزيد، فإجماع السلف على أنه كما أنه يزيد ينقص، والدليل هو مفهوم هذه النصوص التي ذكرناها.
ثم ذكر الإمام الآجري رحمه الله: باب: ذكر ما دل على زيادة الإيمان ونقصانه، يقول: في القرآن أدلة كثيرة على زيادة الإيمان، وقال: قيل لـ سفيان بن عيينة: الإيمان يزيد وينقص؟ قال: أليس تقرءون القرآن، {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} [آل عمران:١٧٣]؟ فقيل له: ينقص؟ قال: ليس شيء يزيد إلا وهو ينقص، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، فإن زاد -أي: سيئاته- زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله عز وجل: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:١٤]).
وعن عمير بن حبيب قال: الإيمان يزيد وينقص، قيل له: ما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله عز وجل وحمدناه وخشيناه فذلك زيادته، فإذا غفلنا وضيعنا فذلك نقصانه.
وعن زر بن حبيش قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأصحابه: هلموا نزداد إيماناً، فيجلسون ويذكرون الله تبارك وتعالى حتى يزداد إيمانهم.
وعن عبد الله بن عكيم قال: سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم زدني إيماناً ويقيناً وفقهاً ثم ذكر قوله عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لألباب ذوي الرأي منكن).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)، يعني: ساعة السرقة يخرج منه الإيمان كما جاء في الحديث: (يرتفع الإيمان من قلبه ويصبح مثل الظلة فوق رأسه، ثم يعود إليه إذا نزع عن هذا الفعل، أو تاب منه).
ذلك لأنه لا يوجد عنده استحضار الشعور بتحريم هذا الشيء، ومثله الزاني والعياذ بالله ساعة هذا الفعل يخرج من الدائرة الصغرى دائرة الإيمان، ولكن ما زال في دائرة الإسلام، فإذا استحل فإنه يخرج من الإسلام تماماً.
فالتوبة تدخل المشرك في دائرة الإسلام العامة، كذلك أيضاً التوبة من المعصية تدخله ثانية إلى دائرة الإيمان، وما الدليل على ذلك؟ لأن الخوارج المكفرين للمسلمين العصاة يقولون: الرسول عليه الصلاة والسلام ينفي عنه الإيمان وأنت تصفه بأنه مسلم كيف هذا؟ ما الدليل على أنه ما زال في دائرة الإسلام؟ نقول: إذا كان خرج بالفعل من الإيمان بالكلية فهذا يستحق أن يقتل ردة، لحديث: (من بدل دينه فاقتلوه)، فإقامة الحد هو تطهير، مثل حديث المرأة الغامدية وغير ذلك من الأحاديث التي فيها الحكم عليهم بعد الاستغفار لهم، فلو خرج غير المحصن بالزنا من الإسلام لكان ردة، لكنه يجلد ولا يقتل، كذلك الشارب يجلد، والسارق يقطع، فدل على إسلامه، ثم الحد كفارة لذنبه، وهذا لا يكون إلا لمسلم، وفي حديث أبي ذر: (وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي ذر)، يعني: إذا مات على التوحيد؛ لأنه ما زال في دائرة الإسلام.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد).
عن فضيل بن يسار قال: قيل لـ أبي جعفر رضي الله عنه في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن).
قال: فدور دائرة وقال: هذا الإسلام، ثم دور حولها دائرة فقال: وهذا الإيمان محصور في الإسلام، فإذا سرق أو زنى خرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام إلا الشرك.
وعن الفضل بن يسار قال: قال محمد بن علي رضي الله عنه: هذا الإسلام دائرة كبيرة، ودور دائرة في وسطها أخرى، وهذا الإيمان الذي في وسطها محصور في الإسلام، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن) ثم قال: يخرج من الإيمان إلى الإسلام ولا يخرج من الإسلام، فإذا تاب تاب الله عليه، ورجع إلى الإيمان.
يقول الإمام محمد بن الحسين الآجري رحمه الله: ما أحسن ما قال محمد بن علي رضي الله عنهما! وذلك أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والإسلام لا يجوز أن يقال: يزيد وينقص.
انظر إلى هذا التعبير الدقيق! يقول: لا تقل في الإسلام: إنه يزيد وينقص، لكن الذي يزيد وينقص هو الإيمان، لأن الإنسان بالطاعة يزيد إيمانه، وبالمعصية يضعف إيمانه، وهذه الأحاديث في الزاني والسارق وشارب الخمر تدل على أنه يخرج من الإيمان ساعة الفعل، ويبقى في الإسلام، فلا يقال في الإسلام: يزيد وينقص، وإنما يقال: الزيادة والنقصان في الإيمان؛ لأنه حتى لو كان متلبساً بالمعصية فما زال في دائرة الإسلام.
نعيد عبارة الإمام الآجري رحمه الله معلقاً على قول محمد بن علي رضي الله عنهما قال: وما أحسن ما قال محمد بن علي رضي الله عنهما! وذلك أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، والإسلام لا يجوز أن يقال: يزيد وينقص، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الإسلام: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة، فمن ترك الصلاة فقد كفر).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما لغلمانه: من أراد منكم الباءة زوجناه، فإنه لا يزني زان إلا نزع الله منه نور الإيمان، فإن شاء أن يرده رده، وإن شاء أن يمنعه منعه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: الإيمان نزه يعني: موصوف بالنزاهة، والنزيه لا يقبل أن يجتمع معه الخبيث، فالإيمان الموجود في قلب المؤمن لا يمكن أبداً أن يجتمع ويبقى في قلب يفعل مثل هذه الفواحش أو هذه المحرمات، الإيمان يتنزه عن أن يتواجد في مثل هذا القلب، فسرعان ما يخرج منه والعياذ بالله! يقول أبو هريرة: الإيمان نزه، فمن زنى فارق الإيمان، فإن لام نفسه وراجع رجع إليه الإيمان.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً).
وقال ابن عيينة: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فقال له أخوه إبراهيم بن عيينة وكان أصغر منه: يا أبا محمد! لا تقولن يزيد وينقص، فغضب وقال: اسكت يا صبي، بل حتى لا يبقى منه شيء.
لأن المعاصي