للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[طبقات عصاة الموحدين وشفاعة الشافعين فيهم يوم القيامة]

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد النبي الأمي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

تقدم الكلام عن المبحث الثالث من مباحث أصول الدين، التي ذكرها الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله في كتابه (معارج القبول) في الجزء الثاني، فشرح فيها قوله: والفاسق الملي ذي العصيانِ لم ينف عنه مطلق الإيمانِ لكن بقدر الفسق والمعاصي إيمانه ما زال في انتقاصِ ولا نقول إنه في النارِ مُخلّدٌ بل أمره للباري تحت مشيئة الإله النافذه إن شا عفا عنه وإن شا آخذه بقدر ذنبه وإلى الجنانِ يخرج إن مات على الإيمانِ والعرض تيسير الحساب في النبا ومن يناقش الحساب عُذّبا تقدم الكلام في هذه المسألة، وهي: أن العاصي إذا مات على التوحيد لا يخلد في النار، وإنما هو تحت مشيئة الله تبارك وتعالى، والعاصي يحمل على من لم يتب؛ لأنه التوبة إذا استوفت شروطها فهي مقبولة، أما إذا مات ولم يتب من ذنبه، فهذا تحت مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء آخذه وعذبه، لكن إن مات على التوحيد فإنه لا يخلد في النار.

فقوله: (ولا نقول إنه)، أي: العاصي، الذي ارتكب من المعاصي التي ليست كفراً تخرج من الملة، إنه في النار مخلد، بل أمره للباري.

والقاعدة: أنه متى ما دخل الإنسان بعد الموت في المشيئة فهذا دليل على أنه لا يخلد في النار؛ لأن الذي يكون تحت المشيئة هو الذي يموت على التوحيد، فإن شاء الله عذبه بذنوبه، وإن شاء عفا عنه ولم يؤاخذه.

تحت مشيئة الإله النافذة إن شا عفا عنه وإن شا آخذه بقدر ذنبه وإلى الجنانِ يخرج إن مات على الإيمانِ يؤاخذه بقدر ذنبه، ثم بعد ذلك يئول أمره إلى الجنة.

والعرض تيسير الحساب في النبا ومن يُناقش الحساب عُذّبا فيكنى عن هذا إشارة إلى تفسير قوله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:٧ - ٨]، وثبت في صحيح البخاري، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس أحد يحاسب إلا هلك، قالت: قلت: يا رسول الله! جعلني الله فداك! أليس يقول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:٧ - ٨]؟! قال: ذلك العرض، ومن نوقش الحساب هلك)، وفي رواية: (ومن نوقش الحساب عُذّب)؛ فمجرد أن يعرض الله على العبد جميع أفعاله التي فعلها، فهذا العرض هو الحساب اليسير، حتى أن الإنسان حين يذكره الله تبارك وتعالى بكل ذنوبه، ويقول: أتذكر يوم كذا؟ وفعلت كذا وكذا، فيذكر له كل شيء من أفعاله، حتى يظن العبد أنه هالك لا محالة {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:٦]، فإذا انتهى من عرض أعماله عليه يقول الله تبارك وتعالى له: (فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أسترها عليك اليوم) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

أما من يناقش: لماذا فعلت كذا؟ وتحصل المناقشة في الحساب فهذا علامة على أنه سوف يعذب، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من نوقش الحساب عُذّب)، فإذاً يجب تفسير قوله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:٧ - ٨]، بأنه سوف تعرض عليه أعماله فقط، وهذا هو الحساب اليسير، أما إذا نوقش زيادة على هذا العرض فلا بد أنه معذب والله أعلم.

والسلف الصالح رحمهم الله وأئمة العلم والحديث قد قسموا العصاة من أهل التوحيد إلى ثلاث طبقات، حتى أن أعلى طبقة من أهل التوحيد هم من المذنبين؛ لأنه ليس أحد معصوم إلا الأنبياء عليهم السلام، أما ما عدا ذلك فيدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون).

فالطبقة الأولى من العصاة من أهل التوحيد: قوم رجحت حسناتهم بسيئاتهم، فأولئك يدخلون الجنة من أول وهلة، ولا تمسهم النار أبداً.

الطبقة الثانية: هم أصحاب الأعراف، وهم قوم تساوت حسناتهم مع سيئاتهم وتكافأت فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار، فهؤلاء يوقفون بين الجنة والنار ما شاء الله أن يوقفوا، ثم بعد ذلك يؤمر بهم إلى الجنة برحمة الله تبارك وتعالى، والآيات معروفة في سورة الأعراف.

أما الطبقة الثالثة: فهم قوم لقوا الله تبارك وتعالى مصرين على كبائر الإثم والفواحش، أي: أن من أتى بهذه المعاصي ولم يتب منها حتى مات، أي: مات من غير توبة، فهؤلاء هم الطبقة الثالثة، ومعهم أصل التوحيد، لكنهم لقوا الله مصرين على بعض الكبائر والفواحش والمعاصي، فرجحت سيئاتهم بحسناتهم، فهؤلاء هم الذين يدخلون النار بقدر ذنوبهم، فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من هو فوق ذلك، حتى أن منهم من لم يحرّم الله تبارك وتعالى من جسده على النار إلا موضوع السجود، وأصحاب هذا القسم هم الذين يأذن الله تبارك وتعالى للنبي عليه الصلاة والسلام ولغيره من الشفعاء في الشفاعة فيهم، وأحاديث الشفاعة متواترة.

أما أهل البدع فهم يضعون أصولاً، ثم يتحاكمون بها في النصوص الأخرى، وقد أمروا أن يتحاكموا إليها، فالخوارج لما اخترعوا بدعتهم بتكفير هذا القسم، وأنه كافر كفراً أكبر مخرج من الملة في المعاصي إن لم يتب منها، كانت أحاديث الشفاعة تزعجهم وتقلقهم كعادة أهل البدع، فردوها بالكلية وكذبوا بحديث الشفاعة، لماذا؟ لأن أحاديث الشفاعة تبطل مناهجهم، هل يمكن أن يقال في أحاديث الشفاعة: أخرجوا من النار من ليس فيها؟! هم يقولون: إن من يدخل النار لا بد أن يكون كافراً، ولا يخرج منها أبداً، فأحاديث الشفاعة تثبت أن أهل التوحيد العصاة -وهم هذه الطبقة الثالثة- الذين ماتوا وهم مصرون على بعض المعاصي، هؤلاء يمكن أن يشفع فيهم الأنبياء، ويشفع فيهم النبي عليه الصلاة والسلام، كما جاء في الأحاديث: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، يعني: الذين لم يتوبوا، أما من تاب واستوفت توبته الشروط فهي مقبولة كما دلت على ذلك النصوص، فمن تاب إلى الله تاب الله عليه، فالشاهد: أنهم قد أزعجتهم هذه النصوص، وتعارضت مع بدعتهم فردوها، وأثبتوا بدعتهم، ولذلك أولوها.

فأحاديث الشفاعة تبطل وتهدم مذاهبهم؛ لأنه لا يعقل أبداً أن يقال: أخرجوا من النار من ليس في النار! إنما يقال: أخرجوا من النار من دخل في النار، فهذا يثبت أن العصاة يستحقون النار خلافاً لمذهب المرجئة، وخلافاً للخوارج، فيخرجون من النار إن ماتوا على أصل التوحيد، وهذا من الأصول المتقررة عند أهل السنة والجماعة.

ومن أعجب الأشياء أن يبرز في مثل هذا الزمان أناس غرقوا في الضلال إلى آذانهم، فيخرج أيضاً كتاباً فيه فكر الخوارج بمنتهى الحماس والقوة والصراحة، ويدعي أن من دخل النار لا يخرج منها، وأن أي معصية تخرج فاعلها من الملة، كما سنبين بإذن الله فيما بعد.

الشفاعة من أهم أقسامها في هذا القسم الثالث من أوساط الموحدين في إخراجهم من النار، والشافع هو النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة العظمى، وغيره من الأنبياء من بعده، ثم شفاعة الأولياء {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:١٠٠ - ١٠١]، دل على أن غير الأنبياء يشفعون، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن اللعانين ليسوا بشفعاء ولا شهداء يوم القيامة)، فالشخص الذي يكثر اللعن لا يصلح للشفاعة لغيره يوم القيامة، كما أن الأحاديث تثبت أن الشهيد يشفع في سبعين إنساناً من أقاربه، فيحد لهؤلاء الشفعاء حداً فيخرجونهم، ثم يحد لهم حداً فيخرجونهم، ثم هكذا، فيخرجون من كان في قلبه وزن دينار من خير، ثم من كان في قلبه نصف دينار من خير، ثم بره، ثم خردلة، ثم ذرة، ثم أدنى من ذلك، إلى أن يقول الشفعاء: ربنا لم نذر فيها خيراً، فيخرج الله تعالى من النار أقواماً لا يعلم عدتهم إلا هو بدون شفاعة الشافعين، ولا يخلد في النار أحداً من الموحدين أبداً، حتى ولو عمل أي عمل، ولكن كل من كان منهم أعظم إيماناً وأخف ذنباً كان أخف عذاباً في النار وأقل مكثاً فيها، وأسرع خروجاً منها، وكل من كان أضعف إيماناً، وأعظم ذنباً كان بضد ذلك والعياذ بالله تعالى.

والأحاديث في هذه الباب لا تحصى كثرة، وقد ذكرنا بعضها، وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (من قال: لا إله إلا الله، نفعته يوماً من الدهر، يصيبه قبل ذلك ما أصابه)، وهذا يشير إلى أن الذي يموت على التوحيد تنفعه كلمة التوحيد يوماً من الدهر، لابد هي نافعته، حتى ولو أصابه قبل ذلك ما أصابه من عذاب النار أو ما دون ذلك، فهذا مقام ضلت فيه الأفهام، وزلت فيه الأقدام، {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:٢١٣].

<<  <  ج: ص:  >  >>