للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مسلك الكاتب في حد الإسلام المجمل وبيان الحق في ذلك]

نناقش الآن مسلكي الإجمال والتفصيل عند الكاتب ونلاحظ العلاقة بينهما من تخالف أو توافق: فبالنسبة لمسلك الإجمال فهو: أن حد الإسلام أو الإيمان أو التوحيد عبارة عن شقين: تصديق بخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جملة وعلى الغيب، والتزام شريعته صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب.

ولا ينازع أحد من علماء أهل السنة في أن أصل الدين هو الإقرار المجمل بكل ما صح به الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تصديقاً وانقياداً، وأن من لم يكن في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر.

فهذا أصل الدين الأصيل الذي تعبر عنه كلمة التوحيد: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه الكلمة تعني الإقرار المجمل، لذلك جاء في الرواية الأخرى: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به)، أي: يصدقوا بخبره عليه الصلاة والسلام.

فأصل الدين عند أهل السنة هو الإقرار المجمل وليس المفصل، فبمجرد أن يدخل في الإسلام وينخلع من حالته السابقة -من اليهودية أو النصرانية أو غير ذلك من ملل الكفر- فإنه يدخل في دين الإسلام من هذا المنطلق، وهو الشهادة بأن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك جعلت الشريعة الشهادتين هما باب الدخول، ونيطت وعلقت بإعلان المرء هاتين الشهادتين عصمة دمه وماله وعرضه؛ لأنهما تتضمنان الالتزام المطلق بالإسلام جملة وعلى الغيب، إذ معنى الشهادتين أنك تصدق الخبر، وتلتزم الشريعة، وتلتزم الحكم.

وهنا نذكر قوله صلى الله عليه وآله وسلم ثانية: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)، فشهادة أن لا إله إلا الله تعني: الإقرار المجمل بالتوحيد، والبراءة المجملة من الشرك؛ لأن فيها نفياً وإثباتاً.

فـ (لا إله): براءة من كل ما يعبد من دون الله، و (إلا الله) إثبات استحقاق الله عز وجل وحده بأن يعبد بلا شريك.

والشهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة تعني الإقرار المجمل بكل ما جاء به صلى الله عليه وآله وسلم تصديقاً وانقياداً.

فلهذا كانت هاتان الشهادتان هما أصل الدين، وكانتا أول واجب على المكلف، وأول ما يدعى إليه الناس من الإسلام، ومعلوم حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه حينما بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن فقال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).

إن ما ساقه المؤلف من أدلة يصدق على كلمة التوحيد لا على ما سماه: حد الإسلام، وهذا هو الذي يتوقف على تحقيقه ثبوت عقد الإسلام، فلا يكون المرء مسلماً إلا باستيفاء هاتين الشهادتين، فالخصائص التي ذكرها الكاتب لتعريفه هي للإسلام أو لحد الإسلام في نظره وأولى بأن تختص بها كلمة الشهادتين: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

وهذا يتضح بربط الأحاديث مثل: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)، فهذا الحد هو النطق بالشهادتين باعتبار أنهما تعبران عن الإيمان المجمل الذي يتضمن الالتزام المطلق بشريعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الحد الذي يتوقف على تحقيقه ثبوت عقد الإسلام، ولا يكون المرء مسلماً إلا باستيفائه، وهذا الحد -وهو الشهادتان- شرط في صحة التوحيد؛ توحيد المعبود، وتوحيد الطريق الموصلة إليه، وأنه لا طريق إليه إلا طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون اعتبار لعلم أو جهل.

حينما يتحدث البعض عن مسألة الكافر الذي يسمع بأن هناك إسلاماً، وأن هناك نبياً يسمى محمداً عليه الصلاة والسلام، وهناك قرآناً، وهذا اليهودي أو النصراني -أو قل ما شئت- سمع بذلك ولم يؤمن به، فما حكمه؟

الجواب

كافر، ويستحق الخلود في النار إن مات على هذا الكفر.

لكن المسلم الذي نطق بالشهادتين، وأتى بشيء من أفعال الكفر جهلاً بأنها كفر، أو أنكر شيئاً من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، أو من الأحكام الشرعية جهلاً بأن هذا هو حكم الله، فهل هذا يكفر؟ الجواب: هذا يعذر بجهله؛ لأن الفرق: أن هذا نطق بالشهادتين فصار عنده إيمان وتصديق مجمل، وانقياد مجمل لشريعة الرسول عليه الصلاة والسلام، فإذا كذب بحديث غير متواتر كأن يقول: هذا الحديث لا يثبت من حيث إن الرواة مطعون بهم، فلا يقبل حديثهم، فهذا لا يكفر.

فالمقصود: أن ثمة فرقاً بين من نطق بالشهادتين فصار عنده انقياد وإيمان مجمل بما جاء في القرآن أو ثبت في سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهو يؤمن به تصديقاً وانقياداً واتباعاً وعلماً، وبين من هو كافر وما زال يستكبر عن أن يقول: لا إله إلا الله، فلا سواء بين من استكبر عن أن يقول: لا إله إلا الله، ومن دخل وأعلن انقياده لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمن لم يقل لا إله إلا الله فلا يعذر بجهله، ما دام أنه سمع عن الإسلام، ومن لم يتحقق لديه هذا المعنى لم يكن مسلماً دون اعتبار لعلم أو لجهل، لماذا؟ لأن هناك إجماعاً بين مختلف الفرق الإسلامية على الشهادة بالكفر على كل من لم يَدِنْ بدين الإسلام، يهودياً كان أو نصرانياً أو مجوسياً أو بوذياً أو غيره، يقول عليه الصلاة والسلام: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا دخل النار).

فكل من لم يشهد لله بالوحدانية، ولمحمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة فهو كافر بلا نزاع، أما ما كان من نزاع في بعض هؤلاء ممن لم تبلغهم النذارة، ومن لم يصلهم البلاغ، فهذا فيما يتعلق بأحكام الآخرة، هل يخلد في النار لأنه كافر، أو يعفى عنه لأنه لم تبلغه الحجة؟ قلنا: إن هذا الالتزام المجمل يصدق عليه أكثر ما أورده الكاتب من الخصائص لما سماه حد الإسلام، فهو سمى حد الإسلام وذكر له خصائص وأكثر هذه الخصائص -لا كلها- تصدق على كلمة التوحيد، لوجود منازعة للكاتب في بعض ما قرره من أن هذا الحد لا يتفاوت ولا يزيد ولا ينقص.

فالإيمان المجمل الذي عبر عنه بحد الإسلام عبارة عن تصديق خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب، والانقياد لشريعته جملة وعلى الغيب، فالتصديق والالتزام هما الركنان، بينما هو يقول: إن هذا الحد غير قابل للزيادة وغير قابل للنقصان، والحقيقة أن الإيمان المجمل بركنيه التصديق والالتزام كل منهما قابل للنقص والزيادة، وهذا أصل عظيم من أصول أهل السنة والجماعة، ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع.

<<  <  ج: ص:  >  >>