للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الولاية وعلاقتها بأصل الدين]

الولاية في اللغة ضد العداوة، وأصل الولاية من الوليْ وهو القرب والدنو، وتطلق على التحالف والنصرة، كما تطلق على المودة والمحبة، يقول الشوكاني رحمه الله تعالى: وأصل الولاية: المحبة والتقرب كما ذكره أهل اللغة.

وأصل العداوة: البغض والبعد، وكما يبدأ العداء بتنافر القلوب، ويمتد إلى أن يصل إلى مقاتلة العدو أو المظاهرة عليه؛ فإن الولاء يبدأ بميل القلب، ويقوى هذا الميل أو الحب ويشتد إلى أن يحمل على الولاء والنصرة.

العداوة بهذا المعنى تقابل وتضاد الولاية، والأدلة على هذه المقابلة قوله تبارك وتعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:٣٤]، ينقلب إلى العكس، فهذا دليل وجود المقابلة بين الطرفين، ويقول عز وجل: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف:٥٠].

وفي الصحاح للجوهري: الولْي: هو القرب والدنو، والوليّ ضد العدو، والموالاة: ضد المعاداة، والولاء: النصرة.

وما ارتباط الولاء والبراء بأصل الدين؟ المحبة والمناصرة منها ما يكون على الدين، ومنها ما يكون على الأسباب أو العلائق الدنيوية.

مثلاً: عاطفة المحبة: منها ما هو حب طبعي، كحب الرجل لزوجه وولده، وحبه لعشيرته ووطنه وقومه، ومن الحب ما يكون على الدنيا، يعني: بعض الناس تحدث بينهم مواصلات وارتباطات وصلات دنيوية من اشتراك في تجارة وعمل ونحو ذلك من الارتباطات الدنيوية، فتوجد بينهم نوعاً من الألفة والمودة والموالاة.

أيضاً: من هذه الموالاة ما يكون على الدين، كحب أي مسلم أسلم بسبب إسلامه، مع أنه قد لا تربطك بهذا الشخص الذي أسلم أي علاقة أو قرابة ولا مودة ولا مصلحة ولا مشاكلة ولا تآلف في أي أمر من أمور الدنيا.

هذا بالنسبة للموالاة.

أما المناصرة: فمنها ما يكون على الدنيا، كما يتناصر الناس فيما بينهم على وشائج النسب والرحم والقرابة والمصالح، يتناصرون وينصر بعضهم بعضاً على الدنيا، كأغلب الحروب التي تقع في العالم اليوم والمنازعات إنما تكون على مصالح الدنيا، ولا تكون على عقيدة أو مبدأ، لكن من النصرة ما يكون على الدين كتناصر المسلمين فيما بينهم على الإسلام من غير أرحام بينهم ولا تجارة يتعاطونها.

فالذي يرتبط بأصل الدين من الولاء والنصرة هو فقط ما كان قائماً على أساس الدين لا على أساس الأسباب والصلات الدنيوية.

إذاً: نحن قسمنا الموالاة إلى أقسام دينية ودنيوية وكذلك المناصرة، فلماذا نقول: إن الذي يتعلق ويرتبط بأصل الدين وتحقيق الولاية إنما يتعلق فقط بالدين، وما وجه ذلك؟ وجهه: أن الحب الطبعي أو التناصر الدنيوي لا ينقض أصل الولاية، وإن كان يقدح في كمالها، يعني: مثلاً قد يكره الرجل بعض أهله وعشيرته، وقد تقع بينه وبين فريق من المؤمنين عداوة لأسباب دنيوية: إما تحاسد أو تنافس أو غير ذلك من الأسباب الدنيوية، وقد يصل الأمر إلى حد الاقتتال أو التباغض، ولا يقدح ذلك في أصل الدين، ولا يصبح المسلم بذلك كافراً، وقد أشار القرآن إلى بعض ذلك في مثل قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:١٩]، فالرجل قد يكره زوجه فقال الله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:١٩]، فهذا الحب قد يتخلف مع الزوجة، ومع ذلك لا يمس أصل الدين، فهذه قد تكون طبعية أو لأسباب دنيوية، ولا علاقة لها بقضية الولاية التي لها ارتباط وثيق بأصل الدين.

يقول أيضاً تبارك وتعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:٩ - ١٠]، فلم تنقطع بينهم أخوة الإيمان رغم أن هذه العداوة التي وقعت بينهم وصلت إلى التباغض والتدابر بل والاقتتال، ومع ذلك لم يقدح ذلك في أصل الدين، وأثبت لهم صفة الإيمان.

أيضاً: قد يستثقل الإنسان بعض التكاليف الشرعية، ويحصل كره طبعي لا شرعي لبعض هذه التكاليف، لكن لا يقدح ذلك في أصل الدين؛ لأن الذي يقدح في أصل الدين هو الكراهية الشرعية وليست كراهية الطبع والاستثقال، فالإنسان يكره أن يقتل في الجهاد، فهل كراهة حصول القتل والسبي والأضرار التي تحصل، تقدح في أصل الدين؟ إذا كره ذلك من حيث أنه شرع الله فهذا يقدح، أما إذا كرهه طبعاً فهذا لا يقدح، والدليل على اعتبار الشرع الكراهة الطبعية قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢١٦].

وقد حصلت للصحابة كراهة طبعية للخروج في غزوة بدر لمقابلة النفير، هم أرادوا أن يخرجوا ليلقوا العير ويغنموا هذه الغنيمة الباردة، يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال:٥ - ٦]، فمع وجود الكراهة الطبعية أثبت لهم الإيمان.

وقال صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)، فلا تستطيع أن تدخل الجنة إلا حينما تمر على هذه المكاره وتثبت عليها، (وحفت النار بالشهوات) لأنها تجذب الناس فتوقعهم في النار، ومن هذه المكاره التي حفت بها الجنة مثلاً: كونك تتوضأ بالماء البارد جداً في شدة البرد لتصلي الفجر، وتسبغ الوضوء على المكاره، وتعطي الوضوء حقه وتبلغ به حده الشرعي وأنت كاره، فأنت تكره هذه البرودة، وهذا نوع من العناء، لكن لا تكرهه شرعاً وإنما طبعاً، أما شرعاً فهو يتلذذ بذلك تقرباً إلى الله تبارك وتعالى، ويصبر على ذلك ابتغاء وجه الله.

فالكراهة المذكورة في قوله تبارك وتعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:١٩]، وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:٢١٦]، وقوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:٥]، لا شك أنها ليست كالكره المذكور في قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:٧٨]، فالأولى كراهة طبعية، والأخيرة كراهة شرعية مذموم أهلها.

أيضاً يقول الله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:٩]، ولا شك أن هناك فرقاً كبيراً جداً بين هذه الكراهة وبين الكراهة المذكورة في قوله تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:١٩]، وغير ذلك مما ذكرنا من الكراهة الطبعية.

أيضاً: وجود المحبة الطبعية أو التواد أو التناصر الدنيوي لا يعني بالضرورة وجود الحب الشرعي، وانعقاد الولاية الإسلامية، وسنذكر بعض الأدلة على أن من الولاية والنصرة ما يتعلق بأسباب الدنيا وليس له ارتباط بقضية أصل الدين.

مثلاً: أبو طالب دافع وذبّ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت هذه نصرة أو محبة طبعية لصلة الرحم، ولكن لم تكن محبة شرعية؛ فلذلك لم تنفعه، ووجود هذه المحبة لم تدخله في الإسلام.

أيضاً: قد يحب الرجل بمقتضى الطبع زوجه أو ولده أو عشيرته، وإن كانوا على غير دينه، ولا يقدح ذلك في أصل الدين، إلا إذا حمله محبة الزوجة أو الأولاد على فعل شيء من الكفر الأكبر، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:٢١]، وكلمة الأزواج تشمل الزوجة الكتابية اليهودية أو النصرانية، فقد يحبها زوجها المسلم حباً طبعياً لا شرعياً.

وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:٥٦]، وهذه الآية نزلت في أبي طالب، وبعض العلماء يفسرها ويقول: إنك لا تهدي من أحببته لقرابته، فهذه المحبة طبعية بسبب القرابة، لكن ليست محبة شرعية، وقد ظل أبو طالب ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة عمره ويحوطه ويمنعه، ولم يتحقق له بهذه النصرة ولاء الإسلام؛ لأنها كانت نصرة على الرحم، ولم تكن نصرة على الدين، بل إن قيام هذا التناصر الدنيوي بين المسلمين لا يحقق به المقصود من الولاية الشرعية؛ لأن المقصود بها ما كان تناصراً على الدين لا على الصلات والمصالح المشتركة، واعتبر في ذلك قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيان ما يجد به الإنسان حلاوة الإيمان في قلبه: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)، فجعل العمدة في ذلك المحبة الشرعية لله، وهذه إحدى الثلاث الخصال التي من فعلها ذاق طعم الإيمان.

والحب والنصر لا يقدح في أصل الدين إلا إذا كان خذلاناً على الدين، أما مجرد القعود عن الجهاد وإن تعين عليه الجهاد؛ فهذه كبيرة من كبائر الذنوب، فمجرد هذا التخلف لا يعد قادحاً في الإسلام، إلا إذا كان يقصد خذلان الدين.

ولا يخرج المسلم عن الإسلام بمجرد قعوده عن نصر الملة، وقد يكون تخلفه عن هذه ا

<<  <  ج: ص:  >  >>