يقول الدكتور جعفر شيخ إدريس تحت هذا العنوان: نستطيع أن نرى في هذه الصورة الموجزة إيجازاً يكاد يكون مخلاً لقضية المنهج في المعالم شيئاً من سر ذلك الاستقبال العظيم الذي قوبل به ذلك الكتاب، ولا سيما من الشباب، وشيئاً من ذلك التأثير الذي لم نر له مثيلاً في كتاب حديث؛ إنه يدعوهم لهدف واضح كل الوضوح وسامق كأعلى ما يكون السموق، إنه لا يطلب منهم أقل من أن يسعوا لتسلم قيادة البشرية، وهو هدف مغرٍ وجذاب لكل ذي همة من الشباب، وهو مع اعترافه بأن الطريق إلى ذلك الهدف شاق وطويل إلا أنه يقنع قارئه بأنه ليس بالأمر المستحيل لمن عزم على السير فيه، وأعد له عدته، وها هي عدته، إنه قيم جديدة ومنهج جديد، وكلا الأمرين يملكهما الإسلام ولا يملكهما دين أو مذهب سواه، وإذا كانت الحضارة الغربية قد فاقتنا في المجال المادي؛ فإن التفوق عليها في هذا المجال -مع أهمية التقدم المادي لوجودنا الذاتي- ليس من المؤهلات المطلوبة لتلك القيادة، فها هو الغرب يتراجع عن هذه القيادة برغم امتلاكه لهذه القوة، وسبب تراجعه هو إفلاسه في عالم القيم، وهو يدعوهم إلى أن يكونوا كجيل الصحابة، ويغريهم بأن هذا أمر ممكن إذا هم سلكوا إليه المنهج الصحيح، وإذا أرادوا أن يكرروا ذلك الجيل، وأن يتسلموا قيادة البشرية؛ فعليهم أن يعتزوا بقيمهم الإسلامية، وأن يستعلوا بها على قيم الحضارة الغربية وسائر القيم الجاهلية التي تسود العالم الذي انسلخوا منه، عليهم أن يضعوا قيم الإسلام للناس كما هي من غير اعتذار ولا خجل ولا تدسس، وأن يصارحوهم بأنها تختلف عن القيم التي اعتادوها، وأن المسافة بعيدة بين القيم الإسلامية وهذه القيم الجاهلية، وأن النقلة من هنا إلى هناك بعيدة.
هذه الروح الاستعلائية الاعتزازية القوية هي موضوع بعض فصول الكتاب وفقراته، ولكن الأهم: أنها تسري في الكتاب كله، وهي -في رأيي- أهم وأغلى وأبقى ما استفاده الناس من كتاب المعالم.
إن هذا الكتاب بهذه الروح يمثل مرحلة جديدة من مراحل الدعوة الإسلامية المعاصرة؛ قفزت فيها الدعوة من مرحلة المجاملة والتردد والاعتذار إلى مرحلة المجاهرة والتحدي والاعتزاز، وهذه المرحلة هي أغلى وأبقى ما استفاده الناس من كتاب المعالم، وإنه لإنجاز عظيم، وإنها لنعمة كبرى على العبد أن يجعله الله سبباً لنقل الدعاة إلى هذه المرحلة الجديدة التي تطلبها دعوتهم، ولكن ينبغي ألا ننسى فضل الدعاة الذين سبقوه، وأن نتذكر أنه لم يبدأ من فراغ، وإنما أضاف لبنات مهمة إلى بناء كان قد وضع أساسه وشيد بعض أدواره دعاة قبله.
هذا بعض ما يتجلى لنا من الصورة الموجزة التي رسمناها.
وأما إذا اكتملت الصورة بالرجوع إلى الكتاب والرجوع إلى مؤلفه في الظروف التي خرج فيها فإن أسراراً أخرى تتجلى، منها: أن الكتاب صيغ بأسلوب يمتاز بالوضوح والقوة والجد والجمال، وباللهجة الصادقة الأمينة، يقرأه الداعية وكأنه خطاب من صديق عزيز يسدي إليه بعض النصائح الغالية، وقد ظاهرت هذه العوامل الداخلية الذاتية لقوة الكتاب عوامل خارجية؛ فقد ظهر الكتاب في وقت ظن الناس فيه أن الحركة التي ينتمي إليها الكاتب قد قضي عليها، فإذا به يذكرهم بوجودها بهذه الصيحة المدوية، وقد قرأ الناس بين أسطر الكتاب معارضة قوية للسلطة الغاشمة التي كانت بلاد الكاتب تعيش تحت وطأتها آنذاك، وزاد من اقتناعهم بذلك: مصادرة الكتاب، كما هي طريقة المغفلين في محاربة الفكر، يظن أن مصادرة الكتاب هو الحل، فزاد من اقتناع الناس بذلك مصادرة الكتاب، ومحاولة الحيلولة دون انتشاره، لكن قوة الكتاب بلغت ذروتها؛ ففي وقت من الأوقات كان بعض الشباب يتداولون كتب الأستاذ سيد في المعاطف والثياب؛ لأنها كانت تعامل كالمخدرات، لكن كانت تقرأ ربما أكثر من الآن، وكان الشباب يهتم بها أكثر من الآن، بسبب أنها كانت تحارب، أما الآن لما توفرت لم يعد الإقبال عليها كما كان في ذلك الوقت، فعامل الله هؤلاء بنقيض قصدهم في حرب الكتاب، لكن قوة الكتاب بلغت ذروتها حين رأى الناس كاتبه يلقى الموت مطمئن البال مستعلياً على السلطة الغاشمة ساخراً منها، فهرعوا إلى الكتاب يقرءونه وصورة الكاتب الشهيد ماثلة أمام أعينهم، فيحسون أنه كان جاداً وأميناً في كل كلمة خطها قلمه، وتذكر كثير منهم قوله في مناسبة أخرى: إن كلماتنا تظل عرائس من الشموع؛ حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الحياة.