[الركن الثالث: عمل القلب]
هناك فرق بين قول القلب وبين عمل القلب؛ لأن قول القلب هو التصديق واليقين، أما عمل القلب فهو العبادات القلبية التي لا تؤدى إلا بالقلب، مثل: النية، الإخلاص، المحبة، الانقياد، الإقبال على الله عز وجل، التوكل عليه، ولوازم ذلك وتوابعه، يقول تبارك وتعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:٥٢] عمل القلب في قوله: ((يُرِيدُونَ وَجْهَهُ))، وقال عز وجل: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:١٩ - ٢٠]، هذا هو عمل القلب، وقال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان:٩]، هذه أيضاً أعمال القلب، النية والإخلاص لله، وقال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:٢] فهنا ذكر من أعمال القلب وجل القلب والخوف من الله تبارك وتعالى وذلك من أركان الإيمان.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:٦٠] ومعلوم أن السيدة عائشة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الذين يؤتون ما آتوا فقالت: (هل هم الذين يسرقون ويزنون ويفعلون المحرمات ويشربون الخمر، فقال عليه الصلاة والسلام: لا يا ابنة الصديق! بل هم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، ويخافون ألا يتقبل منهم)، فهذا هو تفسير النبي عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى: ((وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا))، يعني: من الأعمال الصالحة، ومع ذلك هم خائفون وجلون ألا يتقبل منهم؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:٢٧].
فالشاهد هنا في قوله: ((وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ))، فالوجل والخوف من أعمال القلب.
وقال عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:٢٣]، وقال أيضاً: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨]، وقال عز وجل: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:٣]، والإخلاص عمل قلبي، وقال أيضاً: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:٥]، وهذا عمل قلبي: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:١٤]، والنية عمل قلبي، وقال أيضاً: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:١٦٥]، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:٥٤] والحب عمل قلبي.
فهناك أعمال في القلب لابد أن تؤدى، وحتى تحقق التوحيد في الأعمال القلبية ينبغي ألا توجهها إلا إلى الله تبارك وتعالى، كما أن من أعمال البدن السجود، الركوع، الصيام، الجهاد، هذه كلها من أعمال البدن، حتى توحد الله بأعمال البدن لا توجه هذه العبادات إلا إلى الله تبارك وتعالى، فلا تسجد ولا تركع إلا لله تبارك وتعالى؛ كذلك أعمال القلب ينبغي ألا توجه إلا إلى الله عز وجل، فلا تخاف إلا الله، ولا تحب إلا الله عز وجل وفي الله، ولا تتوكل إلا على الله، فإن وجهت التوكل إلى غير الله ففي هذه الحالة تكون اتخذته شريكاً مع الله تبارك وتعالى, يقول الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:٣١] وقال عز وجل: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:٧]، وقال أيضاً: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء:١٢٥]، وقال: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان:٢٢]، وقال: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج:٣٤]، وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥]، هذا الدليل واضح جداً في اشتراط عمل القلب في الإيمان، ولا يتحقق الإيمان حتى تجتمع هذه الأشياء: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ))، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
قوله: (إنما الأعمال بالنيات)، يعني: الأعمال الصالحة بالنيات الخالصة، ونحتج بالحديث على أن من يعمل عملاً مخالفاً للشرع ثم يقول: نيتي صحيحة؛ كمن يسرق ليتصدق، نقول له: لابد أن يكون العمل صالحاً، إنما الأعمال الصالحة بالنيات الخالصة، ولو عمل عملاً صالحاً يريد به غير وجه الله لا ينفعه أيضاً، فلابد من الاثنين أن يكون العمل صالحاً موافقاً للشرع، وأن يكون خالصاً يبتغى به وجه الله تبارك وتعالى، وتقدم الكلام على ما ينافي الإخلاص من الشرك الأكبر أو الشرك الأصغر.
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحبوا الله من كل قلوبكم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، هذا أيضاً عمل قلبي، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربني إلى حبك)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، فهذا غاية الانقياد؛ إذ لم يكن له هوى غير ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما التوكل والخوف والرجاء والخشية والخضوع وغير ذلك من أعمال القلوب فأدلتها كثيرة جداً يطول الكلام بإحصائها واستقصائها.
الشاهد: كما أن قول القلب هو بالتصديق واليقين بالحق؛ كذلك لابد أن ينضم إليه: قول اللسان بالنطق بالشهادتين.