[لقاء مع شباب من جماعة التكفير]
يقول: استقبلت هؤلاء الشباب بعضهم من الطب وأحدهم من معهد التمثيل، وثالث في كلية العلوم، وكان كل نقاشهم وحديثهم عن الردة، وهال الدكتور نعمان اندفاع الشباب الشديد نحو قضية التكفير، حتى كونوا أحكاماً عجيبة وفقهاً لا مثيل له، قال: ودائماً يزخرفون كلامهم بما يسمعونه عن إهدار كرامة الإنسان، وما يلقاه من عنت وبالذات المسلمين.
ويقول: صرت حينئذٍ أقدر دوافعهم، وكلما ذكرت لهم ذلك استراحت نفوسهم وأشرقت وجوههم، ولكن صارحتهم بخطأ ما توصلوا إليه، فالمحاضن الأولى التي نشأ فيها فكر التكفير هي زنازين السجون، والمعاملة التي لقيها هؤلاء الشباب، فكان رد الفعل المقابل أن تصرفوا هم أيضاً في استنباط هذا الفكر الجديد الذي كان صدى لصوت الخوارج والمعتزلة، سواء علموا بذلك أم لم يعلموا.
يقول الدكتور نعمان: ولكن صارحتهم بخطأ ما توصلوا إليه، وفي لحظة عارضة قلت: هذا الذي تقولون ليس جديداً.
يعني: استقلالهم بفهم الآيات والأحاديث، واسبتدادهم بتفسيرها بمعزل عن علماء الأمة من أهل السنة والجماعة، فأدى إلى أنهم قالوا نفس كلام الخوارج، حتى كان شكري مصطفى يقول: إن الرجل لو أصر على صغيرة فإنه يكفر كفراً يخرجه من الملة، ولو مات على ذلك فهو كافر مثل فرعون وأبي لهب.
إلى مقولات كثيرة جداً وغريبة جاءت نتيجة هذه الأشياء، وكان بعضهم يستدل -مثلاً- بالخلود في النار لمن أصر على المعصية، ويقولون: قال الله تبارك وتعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:٨١]، ويستدل بعضهم بهذه الآية التي وردت في وعيد قاتل المؤمن عمداً، فهكذا يأتون ببعض النصوص فيفسرونها بمعزل عن فهم أهل العلم والمتأهلين لتفسير القرآن والسنة، فنتجت هذه الغرائب.
يقول: وفي لحظة عارضة قلت: هذا الذي تقولون ليس جديداً، لقد قاله الخوارج كلهم، وقال ببعضه المعتزلة، فدهش الشباب ونظر بعضهم إلى بعض، فكررت ذلك عليهم، فرد أحدهم: مستحيل! فهذه الأحكام وليدة الزنزانات، والفقه البعيد عن أي كتاب؛ إذ لم يكن مع الجميع كتاب واحد، أي: أنهم لما أنتجوا هذا الفكر لم يكن معهم أي كتاب، بل ما ولدت هذه الأفكار إلا في داخل الزنازين.
حتى المصاحف كانت تصادر منهم، وما توصل إليه الشباب فهو اجتهاد يقوم على ما يفقهون من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال: وأردت تطييب خواطرهم فقلت: حالكم ليس فريداً في تاريخنا.
أي أنه: أراد أن يلاطف هؤلاء الشباب ويواسيهم فيما كانوا عليه من الوحدة في الزنازين التي أدت إلى ردة هذا الفعل، ومع ذلك أيضاً لا يمنعه هذا من أن يقول لهم: حالكم ليس فريداً في تاريخنا، فهذا الإمام السرخسي الحنفي أملى مبسوطه في عشرين جزءاً وهو مسجون؛ لأن السرخسي سجن في سجن أوزجد في فرغانة، سجنه أميرها حين قبض عليه، فسجن في داخل البئر، وهذه طريقة غريبة للسجن، فكان تلامذته يأتون ويجلسون على قف البئر، وقف البئر هو: السور من الطوب يكون على بئر مثل السور لأعلى البئر، فكان التلامذة يأتون يجلسون على قف البئر والإمام السرخسي مسجون في ظلمة الجب، فكان يملي عليهم هذا الكتاب من ذاكرته رحمه الله.
وكتاب المبسوط معروف أنه من أكبر كتب الفقه الحنفي وأقدمها، وهو في ثلاثين جزءاً بالقطع الكبير أملاه من ذاكرته على تلامذته وهو في السجن.
والإمام أحمد في محنته كان يجلد بالسياط؛ لأنه يمتنع عن القول بخلق القرآن، والطلبة في الخارج كانوا يمسكون بأقلامهم ومحابرهم عساهم يسمعون شيئاً من الرجل الممتحن ليسجلوه.
والإمام مالك جلد جلداً شديداً لفتوى أفتاها لم تعجب الحاكم الظالم.
ثم قلت: أنتم من هذه الأمة وعلى طريقها، ولو حدتم لحزتم الكثير من متاع الدنيا، ولكن ما تذكرون تجدونه لدى الشهرستاني في الملل والنحل.
يعني: مع ما أنتم عليه من الابتلاء بسبب الدين وما تقولونه من أفكار، إن أردتم توثيقها ورجعتم إلى كتب الفرق والملل والنحل ستجدون نفس هذه الأفكار مدرجة في قوائم أهل البدع والضلال كالخوارج وغيرهم، سواء في كتاب الملل والنحل للشهرستاني، أو الإمام البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق، والأشعري في مقالات الإسلاميين.
يقول: وأقول لكم بحدود ما أعلم: ليس هناك جديد فيما تذكرون، فدهش الشباب دهشة كبيرة، واعترف بعضهم بأنه لم يسمع بهذه الكتب، وقال بعضهم: إنه سمع بها، ولكنه لم يرها، قلت: يا شباب! إذا كنا لم نطلع أو نقرأ فلنسمع إلى العلماء وهم في مصر كثر، ونظر بعضهم إلى بعض، وكأني قلت منكراً من القول وزوراً! أي: كيف يقول: إن مصر فيها علماء؟! وقال أحدهم: أنت غريب وحسن الظن، ما تراه هنا هم تجار يبيعون دينهم وعلمهم للحاكم الكافر عوض دراهم معدودة، وتملقاً بلا ثمن في أحوال كثيرة، ثم راحوا يذكرون قضايا تخزي أمة بكاملها، ويستحي منها الفجار، ولا يقدم عليها إنسان فيه وزن بعوضة من دين، قال أحدهم بحسرة: كانوا يأتون ببعض هؤلاء التجار وكانوا يناقشوننا في بدهيات يعرفها الطلبة في المدارس الابتدائية، ويدافعون عن تصرفات الحاكم بما لا يفعل مثله الحاكم أو زبانيته من الشرطة والجلادين.
فانظر إلى الفتنة والظروف التي كان هؤلاء الشباب يعيشون فيها؛ فأنتجت رد الفعل هذا وعدم الثقة في بعض الشيوخ، يقول: إن بعض هؤلاء الشيوخ الذين كانوا يأتون بهم ليناظروهم ويقنعوهم وأيديهم مقيدة بالأغلال والسيوف على رقابهم، ويأتي هؤلاء الشيوخ ليناظروهم وليقنعوهم وليقيموا الحجة عليهم.
يقول: كان بعض هؤلاء المحاضرين يقول لهم: إنه تفاهم مع المسئولين عن التعذيب لتخفيف ذلك على من يستجيب ويترك التشدد والانحراف، فإذا قام له بعض الشباب وقالوا: ليس هناك تشدد ولا انحراف، وإن الأمة وأصحاب المذاهب جميعاً يقولون بأن من أحل الحرام أو حرم الحلال فقد كفر، قهقه الشيخ وقال بسخرية: لا ترجع لهذه المذاهب وخذ عني، فأنا متخصص بمقارنة الأديان، فرد عليه الشباب قائلين: الإسلام ليس فيه بابا ولا قسس يفسرونه للناس، وقرأ عليه قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:١٦٢ - ١٦٣].
وفصل الكلام في قضية التشريع، وأن الشرك في الحكم كالشرك في العبادة، فكان يرد الشيخ عليهم كلما يستدلون بهذه الآية، يقول له: يا بني! هذا خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام.
يقول: فنقول له بأن الإمام البخاري رحمه الله ذكر في دعاء الصلاة الدعاء المعروف: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)، هذا الدعاء يردده كل مسلم، وبعض العلماء يقولون: تقول: وأنا من المسلمين، والبعض يقول: بل تقول كما قال عليه الصلاة والسلام: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).
فرد عليهم ذلك الشيخ بقوله: إني قرآني، والبخاري صواب لكن القرآن حق، والحق مقدم على الصواب.
وخلاصة الكلام: أنه أنكر الأحاديث، وقال: إنه لا يعترف بالسنة مطلقاً، وإنما يعترف بالقرآن.
على أي الأحوال هو يذكر بعض القصص، إلى أن ينتهي إلى قوله: قلت: وأين أنتم عمن تثقون به من العلماء؟ قال الشباب بحسرة: العلماء الذين نثق بهم ليس بمقدورنا الاتصال بهم ومناقشتهم كما نريد، فحكى لهم حكاية عن صديق له أستاذ في الجامعة تقدمت به السن، وكانوا يلحون عليه في الزواج، وكان كلما عاتبوه في عدم زواجه مع تقدم سنه يقول: إن شاء الله.
يقول: ومرة انفردت به وقلت له: ماذا تنتظر؟ لماذا لا تتزوج؟ فقال: يا فلان! أنا في حيرة، فمن أريدها زوجة وأرضاها وأتمناها لا ترضى بي، ومن ترضى بي وتريدني لا أرغب بها ولا أرضاها زوجة، وهذه مشكلتي، ضحك الشباب، يقول: وقليلاً ما يضحكون، وقالوا: هذه هي مشكلتنا، فمن تأتي بهم الحكومة لمناقشتنا كلهم من جواسيس الظالم وأعوانه، وعلمهم من علم إبليس فلا نثق بهم، يقولون: حتى لو كان ما يقولونه حقاً، ومن نثق به وبعلمه لا نصل إليه، وهذه مشكلتنا.
وهنا يدخل الشيخ في نقطة مهمة جداً ويقول: الذي أخشاه: أن فقد الثقة بالعلماء سيحملكم على أحد الأمرين، أو على الأمرين معاً: الاجتهاد من غير استعداد كافٍ ومعرفة تؤهل لذلك، أو العودة للكتب والأخذ عنها دون الاستعانة بأحد، وفي الاثنين من المخاطر ما فيهما! وقال أحد الشباب: لقد وقعنا في الاثنين معاً، ففي السجن الاجتهاد، والذي يخرج من السجن يقرأ الكتب، وبعضنا لم يدرس اللغة العربية إلا في المدارس الرسمية، والذين درسوا في القسم العلمي لا يذكرون من العربية وقواعدها وآدابها شيئاً، وهم داخل السجون يفتون، وكل اعتمادهم على القرآن والسنة.
وهذا الكلام أنا لا أقصد به التشجيع، لكن لننظر الظروف التي نشأ فيها هذا النوع من الفكر، حتى إني أعرف بعض الإخوة من الشباب حديثي السن كان يلقب في داخل السجن بالإمام الفلاني.