يجب أيضاً اعتبار التأويل عند إجراء الحكم على معين من الناس، إذ هناك فرق بين المسلك الذي ينبغي أن نسلكه عند دعوة الناس إلى الدين، والمسلك الذي نسلكه عند معاملة أعيان الناس وآحادهم عندما نأتي إلى نصوص الوعيد، مثل:(العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة؛ فمن تركها فقد كفر)، وغير ذلك من النصوص التي فيها تكفير تارك الصلاة، فأنت في بيان الدعوة يجب أن تترك النصوص كما هي؛ لكي تعمل مفعولها في ترهيب الناس من ترك الصلاة، لكن لا يناسب أن تأتي للناس وتخبرهم أن تارك الصلاة مسلم عاصٍ، إلا في مجال طلبة العلم وبيان الحق إذا ظهر، لكن في مجال الدعوة ينبغي أن تتكلم بعموم النصوص.
مثلاً: قضية الحكم بغير ما أنزل الله تبارك وتعالى، قد تبين أن نوع هذا الفعل والإعراض عنه على أقسام؛ فمنه ما هو كفر أكبر، ومنه ما هو معصية، ومنه ما يكون خطأً معفواً عنه، فمثلاً: الحاكم الذي يرفض أصلاً التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وتطبيق شريعة الإسلام؛ اعتقاداً منه بأن القوانين الغربية أو الوضعية أفضل من القوانين والشرائع الإلهية، فهذا كافر، أو حاكم آخر يحكم بغير ما أنزل الله، وهو معرض عن شريعة الله، معتقد أن شريعة الله هي مثل القوانين الوضعية سواءً بسواء! فهذا أيضاً كافر.
لكن هناك شخص يحكم بغير ما أنزل الله في قضية من القضايا، وهو يعرف حكم الله فيها، ويقر به، ويؤمن بقلبه أن هذا حكم الله، لكنه يعرض عن تطبيق حكم الله نتيجة هوى في نفسه أو محسوبية أو رشوة أو هوى أو أي مقصد من المقاصد الدنيوية، فهذا فسق ومعصية، وكفر دون كفر، كما قال بعض السلف.
وقد يكون الحكم بغير ما أنزل الله صدر من عند الإمام المجتهد وظن أن هذا حكم الله بعدما بذل وسعه في الاجتهاد؛ ثم تبين أن حكم الله يخالف ما ذهب إليه هذا المجتهد، فهذا بنص الحديث:(إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، فيعفى عن خطئه.
فعدم موافقة حكم الله له أسباب شتى، والحكم بغير ما أنزل الله شعب متفاوتة، ليست كلها على درجة واحدة، تبدأ هذه الشعب من الاجتهاد الخطأ المعفو عنه، وتنتهي إلى الكفر الأكبر المخرج من الملة، وبعض هذه الصور قد يلتبس ببعض، والتفريق بين المناط المكفر والمناط غير المكفر مما يحتاج إلى علم وفقه، ولا تزال بعض صور هذا الأمر موضع الجدل بين علماء هذا الزمان، فكيف بعامة الناس أو أشباه العامة؟ فكيف بعد هذا الكلام يأتي من يقول: إن التكفير بكل هذه الأشياء كلها على مرتبة واحدة ما دامت متعلقة بالحكم بغير ما أنزل الله؟! فإن تكفير هؤلاء من أصل الدين لا يكون المرء مسلماً إلا باستيفائه، وأنه لا عذر فيه بجهل ولا بتأويل؟! والبعض يجعل من ذلك معياراً في حكمه على العامة من الناس، والسلسلة التي يتدرج الشيطان بها مع هؤلاء الجرآء على حدود الله معروفة، فقد يتفاوتون، فالبعض يكفر مثلاً الجهاز التنفيذي الجهاز التشريعي الجهاز القضائي، ويقف عند هذا الحد، وبعضهم يقف عند أشخاص بأعيانهم، وبعضهم ينزل مثلاً فيقول: البوليس والجيش من رتبة رائد فما فوق كافر، وما تحته لا يكفر! ويتدرج الأمر فيقول: المشارك في أي هيئة من هيئات الدولة يعد كافراً، وبعضهم يصنف تصنيفاً والآخر يخالفه، فربما كفروا من يعمل موظفاً في الحكومة، وربما يتدرج الآخر إلى ما هو أبعد من ذلك، فيقول: إن كل من يعيش في هذه البلد كفار؛ لأن هذه ديار كفر!! وهذه القضية لها حساسية خطيرة جداً؛ لأن بعض الشباب أحداث الأسنان، وقد يكون أحدهم حديثاً جداً على قضية الالتزام والدين، وربما ما زال يتعلم كيف يصحح طهارته وصلاته، ثم إذا به في اليوم الثاني مباشرة يتكلم ويسأل: هل هي دار إسلام أم دار كفر؟! ويعمد إلى بعض الكتب، ويطبق أحكام أهل الكفر على هذه البلاد، إذاً لا تجب فيه صلاة الجمعة؛ لأن الأصل في أهلها أنهم كفار، وربما وصل به الأمر إلى استحلال الدماء والأعراض، إلى آخر تلك المآسي التي نحفظها، والحقيقة أن القضية ليست بهذه السهولة، وربما من كان بهذه المثابة وما زال يحبوا في أولى خطوات طلب العلم، ويقفز مباشرة إلى مثل هذه القضايا الحساسة والخطيرة وذات الآثار البعيدة، ربما كانت هذه من علامات عدم الإفلاح، فمتى ما فتح عينه على الضلالات والبدعة والجرأة على حدود الله بهذه الطريقة فإنه سوف يصل به الأمر إلى أنه يستحل الحرمات، ويكفر عموم الناس، ويكون لإخوانه الملتزمين بدينهم النصيب الأوفى من التكفير والعدوان واستحلال الحرمات، فلذلك ندعو الإخوة للصبر معنا على هذه السلسلة، لكن الصبر عليها وإن كانت قد تكون قاسية، أو نكون أحوج إلى رقائق أو آداب شرعية أو ما هو أعظم نفعاً، لكن الإنسان إذا عاش في مجتمع أو في زمان لاسيما في مثل هذه الضلالات فيجب عليه أن يتعلم ما يدفع به هذه الشبهات ليردها ويعتصم بالله تبارك وتعالى منها، فندعو الإخوة للصبر علينا حتى نعطي هذا الموضوع حقه ونوفيه قدره.