للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الفرق بين استحلال المعاصي والإصرار عليها]

السؤال

ما الفرق بين استحلال المعاصي والإصرار عليها؟

الجواب

اتفق أهل السنة على تكفير المستحل للمعاصي أو المحرمات، أما الإصرار فلا يكفر صاحبه، بل اتفق أهل السنة على تبديع من قال: إن الإصرار يكفر فاعله.

والإيمان حقيقة مركبة من جزأين: قول وعمل، والقول منقسم إلى قسمين: قول بالقلب، وقول باللسان، والعمل عمل بالقلب وعمل بالأركان، وفيها اللسان.

فقول القلب بالنسبة لأصول الدين أو أصول العقيدة هو التصديق، وقول اللسان هو النطق بكلمة الشهادة، وعمل القلب غير قول القلب، فقول القلب هو الإقرار والتصديق، أما عمل القلب فهو شيء آخر من أركان الإيمان، الذي وهو محبة هذا الشيء، والانقياد له، والتوكل على الله وحده إلى آخر هذه الأعمال القلبية.

فالإيمان حقيقة مركبة من جزأين: تصديق الخبر، والانقياد للأمر، حتى من قال من أهل السنة والجماعة: إن الإيمان هو التصديق إنما عنى بذلك التصديق المستلزم للانقياد، فإذا كان الإيمان هو التصديق بالخبر والانقياد للأمر أو الحكم فمن كذب بالخبر صار كافراً كفر تكذيب، ومن صدق الخبر ولكن رد الأمر ولم ينقد له صار كافراً كفراً الرد والإباء والامتناع، مثال ذلك: إبليس لما أمره الله تبارك وتعالى بالسجود، فقد كان مصدقاً بأن هذا الأمر صادر من الله، ومع ذلك كفره الله تعالى فقال: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:٣٤]، لأنه وقع في نوع آخر من الكفر، حيث وجد عنده التصديق، فهو يعلم ويصدق بأن الله أمره بالسجود، وما قال: أنا أشك في هذا الأمر.

ويعلم أن الآمر هو الله، إذاً: وجد التصديق، لكن لم يوجد الانقياد للأمر، لم يوجد قول القلب الذي هو قبول الخبر، وصار إبليس كافراً كفر رد وإباء وامتناع، ومثله من يقول: الشريعة الإسلامية شريعة الله، لكن لا أطبقها وأرفضها.

فيمتنع إباء أو إعراضاً أو استكباراً، وكلها غير امتناع الجحود؛ لأن الجحود كفر تكذيب.

أما الذي لا ينقاد قلبه ولا يتقبل الحكم بقلبه، بل يعرض عنه ويرفضه فهذا كافر كفر إباء وامتناع وإعراض.

ثم لا بد من أن نعلم أن الانقياد الذي يؤثر في أصل الإيمان ليس هو الامتثال العملي للأحكام؛ إذ الانقياد نوعان: الانقياد العملي، والانقياد القلبي، فالانقياد القلبي كفعل القلب، وذنوب القلب أعظم من ذنوب الجوارح، فامتناع القلب عن الانقياد الذي يؤثر ويقدح في أصل الإيمان ويرتبط به ليس هو الامتثال العملي بالجوارح في الأحكام كما تزعم الخوارج، وإنما هو قبول الأحكام والتزام الشرائع جملة كما هو مذهب أهل السنة، وحتى نوضح هذه الحقيقة ونجليها أكثر نذكر الأحوال الثلاثة: الحالة الأولى: حال رجل لا يشرب الخمر، لكنه يعتقد بقلبه أنها حلال، فهذا كافر كفر تكذيب؛ لأن الله تعالى قال: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:٩٠] فهو لا يعتقد تحريم الخمر، ويقول: هي حلال فهذا مكذب بحكم الله عز وجل، جاحد لمعلوم من الدين بالضرورة، ولا شك في كفره حقيقة عند الله عز وجل.

الحالة الثانية: رجل شرب الخمر وداوم على شربها، وعقد قلبه على عدم تركها أبداً معتقداً بقلبه أنها حلال، فهذا كافر -أيضاً- كفر تكذيب، وفاقد لأحد ركني الإيمان الذي هو تصديق الخبر.

وهذان الشخصان لا سبيل للحكم عليهما بالكفر في الظاهر إلا إذا قام دليل قطعي صريح على هذا الاستحلال القلبي، فإذا قام دليل على أن في القلب جحوداً وتكذيباً فهذا يكفر، كأن ينطق بلسانه ويقول: أنا لا أعتقد تحريم الخمر.

فهذا اللسان هو الذي يغرف مما في القلب، فترجمان القلب هو اللسان، فإذا دل دليل قطعي صريح على هذا الاستحلال القلبي كأن يصرح بلسانه بهذا الاعتقاد فإنه يكفر بذلك.

الحالة الثالثة: مؤمن بأن حكم الله عز وجل في الخمر هو تحريم شربها، لكنه لا يقبل هذا الحكم اقتداء بقلبه، فيقول: هو حكم الملك، ولكنني لا أقبله ولا ألتزمه.

ويرده ويرفضه، بل قد يعترض عليه وينتقده ويعيبه، ويعقد قلبه على عدم ترك شرب الخمر أبداً، فهذا الاستحلال يئول إلى كفر الرد والإباء وعدم القبول، فهذا القلب لم ينقد أصلاً للحكم، فهو مثل كفر إبليس؛ إذ هو عالم بأن الخمر حرمها الله، لكن لم يحصل الانقياد القلبي الذي هو كون الإيمان قولاً وعملاً، وقولاً بالقلب وقولاً باللسان.

أي أن القلب لم ينقد ولم يقبل هذا الحكم، ومثل هذا الرد حتى مع التصديق بأن هذا حكم الله يكفر به صاحبه، ومصداق ذلك في قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:٦٠]، إلى أن قال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥] فهذا عرف أنه حكم الله لكنه لم يحكم شرع الله، والله تعالى قال: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا} [النساء:٦٥] وهذا وجد حرجاً، ولم يسلم تسليماً لحكم الله، فهذا نوع أكبر من الكفر.

ونحن نعلم حديث ابن مظعون لما شرب هو وطائفة الخمر وتأولوا الآية: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة:٩٣] إلى آخر الآية، فأفتى الصحابة رضي الله عنهم في ذلك بمحضر ابن عمر رضي الله عنه بأنهم إن أقروا به جلدوا، وإن لم يقروا به كفروا.

وعلى أي الأحوال فهذا الشخص الذي يرد ويرفض الانقياد لحكم الله يرتكب نوعاً آخر من الكفر غير كفر التكذيب، وهو كفر الرد والإعراض والإباء، مثل اليهود الذين أتوا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشهدوا له بأنه رسول الله، وقالوا: نشهد أنك رسول الله.

لكن قالوا هذه العبارة على سبيل الإخبار عما في قلوبهم لا على سبيل الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد، فلم يصيروا مسلمين بمجرد ذلك، مع أنهم معتقدين أن الرسول حق، بل قد قال الله عز وجل عنهم: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:١٤٦]، وليس هناك أحد يخطئ في معرفة أولاده، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ويؤمنون أنه رسول الله حقاً، لكن لم ينقادوا لحكمه، فكفرهم كفر عناد وإباء ورفض وعدم تحكيم.

فهذه الصور الثلاثة السابقة: صورة الشخص الذي لا يشرب الخمر، لكنه يعتقد بقلبه أنها حلال، وصورة رجل آخر يشرب الخمر ويداوم على شربها، ويعقد قلبه على عدم تركها أبداً معتقداً -أيضاً- بقلبه أنها حلال، وصورة رجل يصدق بأن حكم الله في الخمر هو تحريم شربها، لكنه يرفض بقلبه هذا الحكم ولا ينقاد له قلبياً، هذه الصور الثلاث يصدق على أصحابها ضابط الاستحلال، وهؤلاء مستحلون لما حرم الله، فهذا الاستحلال يكفرهم، وله صورتان: الأولى: عدم اعتقاد الحكم الشرعي، وهذا يرجع ويئول إلى كفر التكذيب، الثانية: عدم التزام هذا الحكم وقبوله والانقياد له بقلوبهم، فهذا يرجع إلى كفر الرد وعدم القبول.

<<  <  ج: ص:  >  >>