للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[درجات الرد للشرائع الجاهلية عند الكاتب]

قرر الباحث أيضاً: أن أدنى درجات الرد للشرائع الجاهلية الاعتزال وعدم المشايعة، أقل درجة من درجات الرد للحكم الجاهلي هي: الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل.

فهو قرر في أكثر من موضع: أن قبول التشريع من غير الله عز وجل كفر، وأن ذلك يتحقق بعدم الرد، وأن أدنى درجات هذا الرد كره القلب، وكيف نعرف كره القلب؟ نعرفه بالاعتزال وعدم المشايعة بالعمل عليه.

قال في صفحة ثلاثة وثمانين وثلاثمائة من بحثه: وقبول شرع الله سبحانه وتعالى يتحقق بعدم الرد.

أي: عدم رد أمر الله عليه، وهو الإباء من قبول الفرائض والأحكام، وكذلك قبول شرع غيره يعرف بعدم الرد، فإن منع من الرد مانع الإكراه في القلب، ودلالة كره القلب الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل عليه.

أي: عدم مظاهرة من يقومون على هذا الباطل، وعدم الترويج لباطلهم.

يقول أيضاً في موضع آخر وهو يتحدث عن الربوبية التي كانت في بني إسرائيل: فإذا تبين الرضا فله حكم الفعل، وإلا فالمتابعة دليل على الرضا، والرضا له حكم الفعل ما لم يكن ثمة إكراه بدلائله ينفي هذه الدلالة.

فيقرر هنا في هذه الفقرات ثلاثة أمور: الأول: أن قبول التشريع من غير الله عز وجل كفر.

الثاني: أن هذا القبول يعرف بعدم الرد.

الثالث: أن شبهة الإكراه لا تنفي دلالة المتابعة الظاهرة إلا إذا قامت الأدلة على كره القلب من الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل.

الملاحظات على هذا البحث: أولاً: أن الباحث اعتبر أن دلالة الكره بالقلب لا تكون إلا بالاعتزال وعدم المشايعة بالعمل، فانظر إلى هذا الحصر: أنه لا توجد طريقة للاطلاع على أن الإنسان كاره لهذا الأمر إلا بأن يظهر كرهه له في الاعتزال وعدم المشايعة على هذا بالعمل، فهذا القول مفض إلى تكفير عامة من لم يعتزل هذه الكيانات الجاهلية المعاصرة، فيترتب على هذا: أن كل من لم يعتزل هذه الكيانات يحكم عليه بالكفر؛ لأن عدم الاعتزال دليل عنده على وجود قبول التكليف من غير الله عز وجل، وقبول التكليف من غير الله كفر بإطلاق.

كما بين الباحث في أكثر من موضع.

قد يؤول هذا الكلام وتظهر له بعض اللوازم ربما يكون الكاتب نفسه لم يقصدها.

هذا احتمال، لكن على أي الأحوال هي لازم كلامه، ومآلات ما قعده من قواعد وأصول، فكل من وجد في كيان من هذه الكيانات الرسمية تحت مظلة الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل سواءً في الجيش كالشرطة والقضاء، أو البنوك، النقابات، الوزارات إلى آخره، فيترتب على هذه المقدمات -لأنه لم يعتزل هذه الكيانات الجاهلية- أنه كافر مشرك بالله العظيم.

كذلك لا يقبل من أي واحد من هؤلاء الاعتذار بالجهل؛ لأنه سبق في مقدمة البحث: أن الكاتب جعل نفي الحكم عن غير الله عز وجل ركناً من أركان الإسلام، ولا عذر بالجهل في ذلك.

كذلك لا يقبل منه الاعتذار بالإكراه؛ لأن دلالته الوحيدة عند الكاتب: هي وجود الكره في القلب بالاعتزال وعدم المشايعة بالعمل، ولا يقبل منه أنه يعمل في هذه الأشياء وأنه يتقي الله في موقعه ما استطاع، فلا يقول: أنا أجتهد في تقوى الله ما استطعت في عملي، وأنه لا يتلبس في عمله بمعصية؛ لأن مجرد وجوده في هذه النظم هو عبارة عن قبوله لأحكامها ضرورة، ومجرد القبول من غير الله كفر بصرف النظر عن موضوع هذا التكليف، بل ربما يكون الأمر له آثار ومآلات هي أخطر وأبعد مدىً مما ذكرنا، وهو أن الحكم بالكفر ينسحب على كل من شارك في كيان من هذه الكيانات الرسمية، ويمكن أن نصفها بأنها مثل القنابل العنقودية، وهذه طبيعة الاتجاهات التي تطورت في أمر التكفير بلا ضوابط، فتجد الفكرة تئول إلى ما بعدها من الآثار الأخطر، حتى لو أن صاحب الفكرة الأولى لم يقصد هذا، لذلك نجد الانشطارات الداخلية كثيرة جداً في الاتجاهات التكفيرية، وهذا أمر معروف ومجرب ومعلوم تجد نفس الاتجاهات تنقسم على نفسها وتنشطر، وهكذا تتفتت وتتشتت، فمنهم من يقف مثلاً عند تكفير جهات معينة، ثم يأتي آخر ينطلق بنفس المنطلق ويكفر الذين يريدون يعملون في الحكومة.

ثم يأتي بعد ذلك من يكفر كل من وجد في البلاد؛ لأن هذا البلد يعلو عليه حكم الكفر، فالأصل في كل أهلها أنهم كفار إلا من ثبت إسلامه، وهكذا تجد الأمر لا ينضبط ولا يقف عند حد، وإنما تحصل هذه التفاعلات الانشطارية والقنابل العنقودية، ويحصل ما يحصل من التهارج والفوضى التي لا حدود لها في أخطر قضية يترتب عليها أخطر الآثار من استحلال الدماء والأعراض والأموال وغير ذلك.

نقول: إن من لوازم هذا الكلام: أن الحكم بالكفر ينسحب على كل من شارك في كيان من هذه الكيانات الرسمية، ولو كان لا علاقة له ألبتة بأي مخالفة شرعية، كما لو كانت محكمة شرعية تحكم بما أنزل الله في نطاق الأحوال الشخصية، أو جهة علمية تتولى تدريس القرآن والعلوم الشرعية، وفعلاً أتى وقت من الأوقات في بعض البلاد مثل السعودية فوجد من يدعو إلى اعتزال الكليات الشرعية كالجامعة الإسلامية أو الجامعات المعروفة هناك؛ لأنها تأتي من قبل حكومة هم يكفرونها، فوصل الأمر إلى هذا الحد، أن الإنسان لا يتعامل مع هذه الأجهزة، ولا أي من هذه الكيانات.

أيضاً: الأزهر مؤسسة حكومية، قد يأتي من يسلك هذا المسلك الانشطاري أو العنقودي، ويقول: الأزهر مؤسسة حكومية، وخاضع لنظم الدولة، فبالتالي لا يجوز التعلم عندهم، أو يقدح في عقيدة الإنسان الذي يتخرج من مثل هذه المؤسسات.

ووجه هذا التهور: أن هذه الدول الجاهلية هي التي تنظم هذه الكيانات، وتضع لها القواعد والتشريعات، والقاعدة: أن الإنسان لا ينظر إلى موضوع التكليف، وإنما ينظر إلى ذات المكلف؛ فالحكم لا يكون في موضوع التكليف، حتى لو كان تحفيظ القرآن أو تعليم العلوم الشرعية، وإنما: من الذي يأمر؟ ومن الذي يكلف؟ بغض النظر عن موضوع التكليف، فالمكلف هنا هو هذه الدول العلمانية، ومجرد الوجود في هذه الكيانات بناءً على هذا الكلام، وعدم اعتزالها يكون حكماً كافياً بالكفر بناءً على ما ذكرنا تقريره من هذه المقدمات.

أنبه أيضاً إلى أن من ينتقدون الباحث في مسلكه لا نجزم بأنه يقول بهذه اللوازم، لكن هذه اللوازم والمآلات واقع رأيناه من كثير من هذه الاتجاهات التي تهورت في قضية الحكم بالتكفير، لكن إذا أردنا أن ننظر نظرة أخرى لهذا الجانب، أو مسلك الكاتب في هذه النقطة، فكان ينبغي أن يلغي الكاتب في كلامه: عدم الاعتزال لهذه النظم دلالة على قبول أحكامها.

لأن الواقع القائم أن هذه النظم تتولى في هذه المجتمعات كل مرافق الحياة بالتنظيم والإشراف فلا يعرف مرفق من مرافق الدول الرسمية إلا وهو خاضع لنظمها وقوانينها، فالناس باعتبار وجودهم في هذه المجتمعات، وارتباط مصالحهم بها، مدينون لذلك شاءوا أم كرهوا، وهذا أمر يتفق في الخضوع له والارتباط به أغلب الناس، سواء في ذلك المنكر أو الراضي، إلا من اعتزل في شعب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة.

كما ألغينا اعتبار دلالة عدم الاعتزال والمشايعة، كذلك في الجهة المقابلة: ينبغي اعتبار التفرقة على أساس الموضوع والوظيفة، فمن تقلد عملاً في بنك ربوي يختلف عمن تقلد عملاً في مستشفى حكومي للعلاج، ومن يعمل في مجال الشرطة والقضاء لابد أنه يختلف عمن يعمل في مجال الإدارة والخدمات، حتى في نطاق الأعمال المحرمة يجب أن نفرق بين من يوجد تحت لوائها ارتزاقاً مستحلاً ما يتعاطاه من مرتب، وأنه ما يجد عيشاً غير ذلك، وبين من يوجد استجازة لها والتزاماً بشرائعها عندما يكون الحديث عن الإيمان والكفر.

حتى في قضية التزام الشرائع يجب أن نفرق بين وضعين: بين من يلتزم شريعةً ما إيماناً بها، وولاءً لها، وإقراراً لأصحابها في الحق في ذلك، وبين من يلتزم بهذه الشريعة جلباً لمصلحة أو دفعاً لمفسدة، فالمناط المكفر في هذا هو المناط الأول، وهو من يلتزم هذه الشرائع إيماناً بها، وولاءً لها، وإقراراً لأصحابها بالحق في ذلك.

فالذي يلتزم بشريعة الإسلام في الظاهر حقناً لدمه، أو دفعاً لمغارم وجلباً لمغانم لا يكون مؤمناً في حقيقة الأمر، وإن أجريت عليه في الظاهر أحكام الإسلام عند من لا يعرف حاله، والذي يلتزم بنظام جاهلي اتقاءً لشره أو جلباً لمغنم مع كفره به، وكراهيته له، لا يكون كافراً في الحقيقة، وإن جاز أن تجري عليه أحكام الكفر في الظاهر عند من يجهل حاله.

فإن وجدت شبهة الإكراه العامة التي تجعل الخضوع لهذه النظم أو الكثير منها لا ممدوحة منه أهدرت هذه الدلالة في الحكم بظاهر الكفر، واستصحب أصل الإيمان في كل من تحقق لديهم عقده المجمل حتى يثبت الالتزام الطوعي بهذه النظم والإقرار المسبق لها دون شائبة من جهل أو تأويل أو إكراه.

<<  <  ج: ص:  >  >>