للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أقوال العلماء في العذر بالجهل]

يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فإنه يعذر بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر.

وقال ابن العربي رحمه الله تعالى: الطاعات كما تسمى إيماناً كذلك المعاصي تسمى كفراً، لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد به الكفر المخرج عن الملة، فالجاهل والمخطئ من هذه الأمة ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون صاحبه مشركاً أو كافراً فإنه يعذر بالجهل والخطأ حتى تتبين له الحجة التي يكفر تاركها بياناً واضحاً لا يلتبس على مثله وينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام مما أجمعوا عليه إجماعاً قطعياً يعرفه كل من المسلمين من غير نظر وتأمل كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع.

وقال الحافظ ابن حزم رحمه الله تعالى: صح أنه لا يكفر أحد حتى يبلغه أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا بلغه فلم يؤمن به فهو كافر، فإن آمن به ثم اعتقد ما شاء الله أن يعتقده في نحلة أو فتيا أو عمل، أو عمل ما شاء الله أن يعمله دون أن يبلغه في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بخلاف ما اعتقد أو قال أو عمل فلا شيء عليه أصلاً حتى يبلغه، فإن بلغه وصح عنده فإن خالفه مجتهداً فيما لم يتبين له وجه الحق في ذلك فهو مخطئ معذور مأجور مرة واحدة، كما قال عليه السلام: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر)، وكل معتقد أو قائل أو عامل فهو حاكم في ذلك الشيء، وإن خالفه بعلمه معانداً للحق معتقداً بخلاف ما عمل به فهو مؤمن فاسق، وإن خالفه معانداً بقلبه أو قوله فهو مشرك كافر، سواء في ذلك المعتقدات والفتيا للنصوص التي أوردناها، وهو قول إسحاق بن راهويه، وبه نقول وبالله التوفيق.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أنا من أعظم الناس نهياً أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية.

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: إن العذاب يستحق بسببين: أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها، والثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها، فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، فأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل.

وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما ونعذرهم لأجل جهلهم وعدم من ينبههم فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا ولم يكفر ولم يقاتل؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.

ويقول القرطبي رحمه الله تعالى: فكما أن الكافر لا يكون مؤمناً إلا باختياره الإيمان على الكفر، كذلك لا يكون المؤمن كافراً من حيث لا يقصد الكفر ولا يختاره بالإجماع.

وقال الشوكاني رحمه الله: لا اعتبار بما وقع من فوارق عقائد الشرك، لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام، ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر، ولا اعتبار بلفظ تلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه.

فهذه نصوص عن بعض العلماء في هذه القضية، أما هؤلاء الذين لم تبلغهم الدعوة على وجهها وماتوا فقد ذكر العلماء أنهم فريقان، فمنهم من أطلق القول بعذرهم، وأن الرحمة تشملهم ابتداء، حتى قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: بل أقول: إن أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله تعالى، أعني الذين هم في أقاصي الروم والفرس ولم تبلغهم الدعوة، فإنهم ثلاثة أصناف: الصنف الأول: لم يبلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم أصلاً، فهم معذورون.

الصنف الثاني: بلغهم اسمه ونعته، وما ظهر عليه من المعجزات، وهم المجاورون لبلاد الإسلام والمخالطون لهم، وهم الكفار الملحدون.

الصنف الثالث: هم بين الدرجتين، بلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم ولم يبلغهم نعته وصفته، بل سمعوا -أيضاً- منذ الصبا أن -والعياذ بالله- كذاباً اسمه محمد ادعى النبوة، كما سمع صبياننا أن كذاباً يقال له: المقفع بعثه الله تحدياً بالنبوة كاذباً.

يقول الغزالي: فهؤلاء عندي في معنى الصنف الأول، فإنهم مع أنهم لم يسمعوا اسمه سمعوا ضد أوصافه، وهذا لا يحرك النظر في الطلب.

فهذا كلام الغزالي في فيصل التفرفة بين الإيمان والزندقة.

ومنهم من قال في هذا الصنف: يمتحنون في عرصات يوم القيامة، وصحت النصوص في ذلك كما أشرنا إليها من قبل، وذهب إلى القول به عدد كبير من أهل العلم، كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن حجر وابن حزم وابن كثير والبيهقي، ونسبه أبو الحسن الأشعري إلى أهل السنة والجماعة، واستدلوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أربعة يوم القيامة يدلون بحجة: رجل أصم لا يسمع، ورجل أحمق، ورجل هرم، ومن مات في الفترة، فأما الأصم فيقول: يا رب! جاء الإسلام وما أسمع شيئاً.

وأما الأحمق فيقول: جاء الإسلام والصبيان يقذفونني بالبعر.

وأما الهرم فيقول: لقد جاء الإسلام وما أعقل.

وأما الذي مات على الفطرة فيقول: يا رب! ما أتاني رسولك.

فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم رسولاً أن: ادخلوا النار.

قال: فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً).

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله بعد أن ساق النصوص التي تشير إلى امتحان هؤلاء في عرصات يوم القيامة: وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض، وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عن أهل السنة والجماعة، وهو الذي ذكره الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب الاعتقاد، وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ والنقاد.

وأجاب عمن ضعفوا هذه الأحاديث بقوله: إن أحاديث هذا الباب -التي هي امتحان أهل الفترة يوم القيامة- منها ما هو صحيح، كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن، وإن كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها.

وقال الحافظ ابن حزم رحمه الله: أما من لم يبلغه ذكره صلى الله عليه وسلم فإن كان موحداً فهو مؤمن على الفطرة الأولى صحيح الإيمان لا عذاب عليه في الآخرة، وهو من أهل الجنة، وإن كان غير موحد فهو من الذين جاء النص بأنه يوقد لهم نار يوم القيامة فيؤمرون بالدخول فيها، فمن دخلها نجى، ومن أبى هلك.

وقال الشنقيطي رحمه الله تعالى: الظاهر أن التحقيق في هذه المسألة -التي هي: هل يعذر المشركون بالفترة أو لا - هو أنهم معذورون بالفترة في الدنيا، فوجه الجمع بين الأدلة هو عذرهم بالفترة، وأن الله يوم القيامة يمتحنهم بنار يأمرهم باقتحامها، فمن اقتحمها دخل الجنة، وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا، ومن امتنع دخل النار وعذب فيها، وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا؛ لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل، فبهذا الجمع تتفق الأدلة، فيكون أهل الفترة معذورين، وقوم منهم من أهل النار بعد الامتحان، وقوم منهم من أهل الجنة بعده أيضاً.

<<  <  ج: ص:  >  >>