كيف نفرق بين الاستحلال الذي يكفر صاحبه باتفاق أهل السنة، والإصرار الذي لا يكفر صاحبه؟
الجواب
نفترض أن رجلاً يشرب الخمر، وهو مقيم على هذه المعصية، ولم يقلع عنها ويتب منها بسبب غلبة الشهوة وضعف الإرادة، مع بقاء اعتقاده القلبي بأن الله حرمها، ومع بقاء مبدأ قبول حكم التحريم والتزامه به، أي: يعتقد أن الخمر حرام، ويصدق أن هذا حكم الله، ثم هو بقلبه قبل هذا الحكم وما رفضه، لكن غلبته شهوته، فلا يستطيع أن يفارق هذه المعصية، فمثل هذا المصر لا يكفره السلف؛ لأنهم لا يعدون تكرار الذنب ومجرد الإقامة الظاهرة عليه دليلاً على استحلال القلب، ويقولون: إن مات موحداً غير تائب من هذا الذنب فهو تحت المشيئة: إن شاء عفا الله عنه بفضله، وإن شاء عذبه بعدله، لكنه لا يخلد في النار.
ومثال هذا كثير، كالرجل الذي كان يضحك الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يلقب حماراً، وكان يؤتى به وقد شرب الخمر، ففي مرة من المرات قال بعض الصحابة حينما أحضر ليقام عليه الحد: لعنه الله؛ ما أكثر ما يؤتى به! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله) قال هذا عليه الصلاة والسلام مع أن الرجل مداوم على شرب الخمر، ومع ذلك قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فهذا مصر لكنه غير مستحل.
وكذلك أبو محجن الثقفي، ومعروفة قصته، فقد كان مداوماً على شرب الخمر، فهو مثال للشخص الذي تغلبه شهوته، ثم تاب بعدما أبلى في الجهاد كما هو معلوم.
فالفرق بين الاستحلال الذي اتفق أهل السنة على تكفير صاحبه، وبين الإصرار على المعصية الذي اتفقوا على تبديع من يكفر به هو أن الاستحلال إما أن يكون بتكذيب حكم الله وعدم الإقرار به، فهنا يكون متعلقاً بمبدأ تصديق الخبر، وإما أن يكون برد هذا الحكم وعدم التزامه، والاعتراض عليه، والاستكبار عنه، وهو هنا يتعلق بمبدأ قبول الأحكام، فتخلف التصديق كفر تكذيب، وتخلف القبول كفر رد وإباء، وكلاهما قادح في أصل الإيمان.
أما الإصرار على المعصية فيتعلق بمبدأ الدخول في الأعمال، فهو بقلبه قد قبل الحكم، وبقي تنفيذ الحكم أو عدم تنفيذه بالجوارح، لكنه بقلبه قابلٌ حكم الله، وملتزم بحكم الله، فالإصرار يتعلق بمبدأ الدخول في الأعمال، أي: تنفيذ الأحكام أو عدم تنفيذها، وهذا قادح في كمال الإيمان لا في أصله، وينقص إيمانه بهذه المعصية، ولا يذهب بالكلية، ويضربون مثالاً لذلك بالبدن الذي فيه روح، فالبدن الذي لا روح فيه، البدن الذي فيه روح أصل الإيمان موجود فيه بشقيه: تصديق الخبر والانقياد للأمر، فيبقى الجسد حياً حتى لو بترت بعض أعضائه، فلو بترت ساقه أو أطرافه أو عينه أو غير ذلك من أعضائه يبقى كائنا حياً يستطيع أن يعيش ما زالت فيه الروح، لكن إذا خرجت الروح لم ينفعه شيء، فإذا خرج الإيمان بشقيه -تصديق الخبر والانقياد للأمر- لا يبقى فيه إيمان، بل يقضى عليه بالكلية، كالشجرة إذا اجتثت من جذورها، لكن إن كسرت واستخرج منها بعض الأغصان فإن ذلك ينقصها ولا يبقيها سليمة، وتبقى حية مع ذلك.