[لا عذر بالجهل في الإقرار المجمل بالإسلام]
ومن الأمور المهمة في هذا الموضوع أنه لا عذر بالجهل في الإقرار المجمل بالإسلام، والبراءة المجملة من كل ما يخالف دين الإسلام.
فأكثر الذين كفروا بالله عز وجل كفروا عن طريق تقليد الآباء والأجداد، يقول الله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:٢٧]، ويقول عز وجل: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:٢٣]، ويقول: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:٧٨]، ويقول: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة:١٨]، ويقول: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة:١٠] أي: شك.
فذم الله تبارك وتعالى المكذبين من الكفار فيما لا يحصر من أدلة القرآن والسنة.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، واتباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل، فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفاراً، فإن الكافر من جحد توحيد الله وكذب رسوله إما عناداً أو جهلاً وتقليداً لأهل العناد.
فسياق كلام ابن القيم هو في الكفار الأصليين الذين يخصهم بأنهم جحدوا توحيد الله وكذبوا رسله، ولم يتحقق لديهم الإقرار المجمل بالإسلام، والبراءة المجملة من كل دين يخالفه، ومن كان كذلك لم يعذر بجهله بالاتفاق.
فهذا فيما يتعلق بالكافر الجاهل؛ لأن هذا الكافر الجاهل لم يقر إقراراً مجملاً بالالتزام بحكم الإسلام ثم جهل شيئاً، فالخلل والخطر في الحقيقة هو قياس المقرين بالإسلام في الجملة على هؤلاء الكفار الأصليين، أن تقيس من قال: لا إله إلا الله على من استكبر عن أن يقول: لا إله إلا الله، وأن تقيس من يعظم كتاب الله ويوقره ويؤمن به على أنه وحي من الله عز وجل بمن قال عن القرآن: إنه سحر وكهانة وأساطير الأولين.
فإنه لا يستوي من وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه كذاب أشر ساحر مجنون ومن عظم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآمن برسالته ونبوته ومحبته.
فلا يصح أبداً قياس المقرين بالإسلام في الجملة على هؤلاء الكفار الأصليين؛ لأن عامة المسلمين وجهلاء المسلمين يقرون في الجملة لله بالوحدانية ولمحمد بالرسالة، فلا نتخيل واحداً من هؤلاء الذين شهدوا بالشهادتين أن يقول: إن الله ثالث ثلاثة.
أو: إن عيسى ابن الله.
أو: عزير ابن الله.
ونحو هذا مما يخالف الإقرار المجمل بإثبات الوحدانية لله عز وجل، فمثل هذا لا يقع من هؤلاء.
فالحقيقة أن من أقروا في الجملة بالالتزام بدين الإسلام لم يجحدوا التوحيد، ولم يكذبوا الرسل، وإن خفيت عليهم بعض تفاصيل الدين.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أيضاً: بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول، هذا في الجملة، واليقين موكول إلى علم الله وحكمه، هذا في أحكام الثواب والعقاب، أما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر، فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم.
وقال الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله: وقد ذكر علماء الأصول من ذلك -أي: من الجهل الذي لا يعذر به صاحبه- جهل غير المسلم بالوحدانية، وجهله بالرسالة المحمدية، إذا بُلِّغ الدعوة الإسلامية على الوجه الصحيح، وأقيمت الأدلة القاطعة بصدقها، فإنهم قالوا: إن قال هذه الأشياء جهلاً منه فإنه لا يعذر بجهله.
وهذا في الكافر الأصلي كما ذكرنا.