ويلحظ هنا أننا لم نسهب في ذكر الأدلة من القرآن؛ لأن أكثر الذين تكلموا في قضية العذر بالجهل وانتصروا للإعذار بالجهل يستدلون بأدلة لا علاقة لها بالمسألة التي تهمنا؛ إذ هذه الأدلة التي استدلوا بها هي في عموم الناس وفي الكفار الأصليين، أما قضيتنا فهي في رجل مسلم دخل في الإسلام وارتكب فعلاً من أفعال الشرك وهو يجهل أن هذا شرك، ولم يبلغه أن هذا شرك، فعامة الذين يتكلمون في العذر بالجهل يستدلون -مثلاً- بقوله تبارك وتعالى:{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}[الإسراء:١٥]، وغيرها من الآيات، كقوله عز وجل:{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}[طه:١٣٤]، وقوله تبارك وتعالى:{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ}[الملك:٨ - ٩] إلى آخر الآية، كذلك قوله عز وجل:{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}[الزمر:٧١].
فالشاهد أن هذه الآيات في الكفار، أما موضوعنا فهو موضوع خارج عن قضية الكفار، فموضوعنا هو في قضية مسلم ارتكب فعلاً من أفعال الشرك أو الكفر وهو يجهل، فالفرق بين المسلم والكافر: أن هذا المسلم أقر الإقرار المجمل بـ (لا إله إلا الله محمد رسول الله) قبل أن يبدأ في الانقياد لله واتباع رسوله عليه الصلاة والسلام، فالذين لا يعذرون يقولون: إن الميثاق الذي أخذه الله من قبل على ذرية بني آدم -كما جاءت بذلك الأحاديث والآية في سورة الأعراف- يكفي.
وفريق آخر استدلوا بأن الإنسان فطر على التوحيد، لقوله صلى الله عليه وسلم:(كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه)، أو بأن العقل يهدي أيضاً إلى التوحيد.
والجواب عن هذا كله أن هذه الأشياء لا تثبت تفضلاً من الله عز وجل، ولا يحاسب الإنسان عليها حتى تبلغه الحجة الرسالية، ولم يعول الشرع في ذلك لا على الميثاق الأول ولا على الفطرة أو العقل، وإنما أوقف العذاب على بلوغ الحجة الرسالية التي يكفر تاركها.
ومن الأدلة التي استدلوا بها من القرآن قوله تعالى عن الحواريين:{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ}[المائدة:١١٢] إلى آخر الآية في سورة المائدة، فوقف من يعذرون بالجهل عند قوله تعالى عن الحواريين:{هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}[المائدة:١١٢]، والقرآن أثنى على الحواريين، وكأن الحواريين كان عندهم شك في قدرة الله على أن يفعل ذلك، وفي الآية -أيضاً- أخذ ورد من حيث الاستدلال.