[إبطال مذهب المرجئة في الإيمان]
ما زلنا في الكلام على قضية الرد على طرفي الانحراف في قضية الإيمان والكفر، وهم الغلاة من المرجئة، ثم في الطرف الآخر الخوارج والمعتزلة، وذلك ضمن حديثنا عن ستة مباحث تتعلق بمسائل أصول الدين، كما ذكرها الشيخ حافظ حكمي رحمه الله في معارج القبول، يقول: ولا نقول إنه في النار مخلد بل أمره للباري تحت مشيئة الإله النافذه إن شا عفا عنه وإن شا أخذه بقدر ذنبه وإلى الجنان يخرج إن مات على الإيمان والعرض تيسير الحساب في النبا ومن يناقش الحساب عذبا وذكرنا في الرد على المرجئة كلام إمام الأئمة أبي بكر بن خزيمة رحمه الله تعالى، وملخصه: أن المرجئة يأخذون بطرف من النصوص ويهملون الطرف الآخر الذي يفسرها ويوضحها ويبينها؛ فهم يزعمون أن النار حرمت على كل من قال: لا إله إلا الله، ولا يمكن أن يدخل النار أبداً، وهم بالتالي يؤولون كل ما خالف هذا الاعتقاد من النصوص، فذكرنا في رد الإمام أبي بكر بن خزيمة رحمه الله تعالى على هؤلاء حينما ذكر بعض أدلتهم مثل: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)، ومثل: قوله صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة)، إلى غير ذلك من النصوص، فقلنا: إن هذه النصوص ليست على إطلاقها، بل لابد من تقييدها وفهمها في ضوء جملة أخرى من النصوص، فمثل هذه النصوص إنما تأتي في فضيلة عمل معين من الأعمال الصالحة فقط، لكن لا تعني أن كل الإيمان هو ما ورد في هذا الحديث، فلا يجوز أن تقول: إن من قال: لا إله إلا الله.
قد أتى بكل الإيمان، فهذه النصوص إنما هي في فضائل هذه الأعمال، وليست هي جميع الإيمان، بدليل أنه لا يخالف أحد أبداً في أن من قال: لا إله إلا الله ثم ضم إليها شهادة أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، ثم هو في نفس الوقت مع أنه قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، لكنه لم يؤمن بأي واحد من الأنبياء، فلم يشهد بعيسى ولا بموسى ولا بنوح ولا بهود ولا بغير ذلك من الأنبياء الذين يشهد لهم بالنبوة والرسالة، فهل يكون مسلماً مؤمناً؟! وهل يحرم على النار أم أنه يكفر بذلك؟! لاشك أنه يكفر بذلك؛ لأن الإيمان عبارة عن حقيقة مركبة من أجزاء لا تنفك ولا ينفصل بعضها عن بعض أبداً بأي حال من الأحوال، فالتكذيب بنبي واحد تكذيب بجميع الأنبياء، ولذلك يقول تبارك وتعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:١٢٣]، ومع أن الذي أرسل إليهم كان رسولاً واحداً، لكن التكذيب برسول واحد هو تكذيب بجميع رسل الله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فلا يمكن أبداً ولا يوجد أبداً في علماء المسلمين من يقول: إن من قال: لا إله إلا الله حرم على النار، أو دخل الجنة، حتى ولو لم يشهد بالنبوة وبالرسالة، أو قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكذب بالجنة أو النار أو البعث والنشور، هل يعد مؤمناً مسلماً أم أنه يكفر بذلك؟ كلا لا ينطبق عليه هذا الحديث، فإذا صح أن يستدل بمثل هذه الأحاديث في فضيلة كلمة التوحيد صح بالتالي أن يحتج جاهل معاند بحديث: (من علم أن الصلاة عليه حق واجب دخل الجنة) إذا صح هذا الحديث جاز أن يدعي جاهل آخر بأن كل الإيمان هو أن تؤمن وتصدق أو تعلم بأن الصلاة عليك حق واجب، وتكون مؤمناً بمجرد ذلك وإن لم تقر بلسانك ولم تصدق بقلبك بشيء مما أمر الله بالتصديق به، وأنك إذا علمت أن الصلاة حق واجب فأنت تدخل الجنة حتى لو أتيت جميع المحرمات وعطلت جميع الواجبات.
وبالتالي أيضاً يمكن أن يأتي جاهل ثالث فيستدل بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها حرمه الله على النار)، يعني: صلاة الصبح وصلاة العصر؛ فإن فعل هاتين الصلاتين فقط توجب دخول الجنة، حتى ولو لم يأت الإنسان بأي شيء من المأمورات ولم يجتنب شيئاً من المنهيات.
هذه الأحاديث وأمثالها إنما هي في فضيلة هذا العمل، ولا يمكن أن يفهم منها أن جميع الإيمان هو أن تأتي بما ورد في مثل هذه النصوص.
فحقاً لا إله إلا الله كلمة النجاة وكلمة التوحيد، لكن للا إله إلا الله لوازم ومقتضيات وشروط قُيد دخول الجنة باستيفائها.
أنت حينما تقدم أوراقاً لأي جهة رسمية، فهناك أوراق أساسية تطلب منك، وإذا قصرت في تقديم إحدى هذه الأوراق المطلوبة يقال لك: مطلوب منك استيفاء باقي الأوراق، فكذلك للا إله إلا الله شروط ومقتضيات ولوازم لابد من الإتيان بها، وإذا كانت لا إله إلا الله هي مفتاح الجنة، لكن كل مفتاح له أسنان، فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك، والأسنان هي الأعمال ومقتضيات هذا الإيمان.
فكل ما ورد في فضيلة لا إله إلا الله لا يفهم منه أن كل الإيمان أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإلا فعلى هذه الطريقة المعوجة في فهم النصوص يمكن أن يأتي إنسان جاهل فيقول: إن كل الإيمان هو أن تقاتل في سبيل الله فواق ناقة، وهو الوقت ما بين حلبة وأخرى للناقة، وقت يسير جداً ويستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة)، فهل كل الإيمان أن تقاتل في سبيل الله هذه الفترة القصيرة من الزمن؟ أو هل كل الإيمان أن تغبر قدماك في سبيل الله، وتستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار)؟ هل يكون الإنسان مؤمناً كامل الإيمان فقط بأن تغبر قدماه في سبيل الله حتى ولو عطل كل الأوامر؛ فما صلى ولا صام ولا زكى وشرب الخمر وفعل الفواحش وسرق إلى آخر هذه المحرمات؛ ولأنه اغبرت قدماه في سبيل الله دخل الجنة وحرم على النار؟ كلا.
أو هل كل الإيمان أن يعتق الإنسان رقبة مؤمنة حتى ينجو؛ ويستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار)؟ هذا فقط يستدل به على فضيلة عتق الرقبة، لكن لا يقال: هذا هو كل الإيمان.
كذلك أيضاً هل كل الإيمان أن يبكي الإنسان من خشية الله، ويستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار من بكى من خشية الله تعالى)؟ كلا، هذه في فضيلة البكاء من خشية الله، وليس معنى الحديث أن كل الإيمان أن تأتي بهذا العمل.
أو هل كل الإيمان أن تصوم يوماً تطوعاً في سبيل الله، وتستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)؟ كلا، هذا إنما هو في فضيلة هذا العمل الصالح، وليس معنى ذلك أن كل الإيمان الإتيان بهذه الشعب من الأعمال الصالحة.