إن دعاء غير الله عز وجل والتوجه إلى غير الله بطلب الحاجات هو أعظم ما يقع فيه القبوريون من الشرك، لنرى ما عند هؤلاء القوم، أو نذكر نموذجاً مما يعتمدون عليه من الشبه والتأويلات التي تزين لهم هذا المنكر الأكبر، فالإنسان إذا استوعب وجهة نظر مخالفه، واطلع على فسادها؛ أمكنه تحديد موضع الداء وتشخيص الدواء والعلاج الصحيح له، فهناك كثير من الشبه التي يتلبس بها هؤلاء القبوريون فيما يقترفون من الشرك، ولا نشك في أن هذه شرك أكبر، فدعاء غير الله أو سؤال غير الله بما لا يقدر عليه إلا الله لا شك أن هذا هو الشرك، ولا شك أيضاً أن بعضها أغلظ من بعض، وهؤلاء الذين يدعون الموتى أو الأولياء أو الصالحين المدفونين في قبورهم، هؤلاء يقولون: إننا نعتقد أن هؤلاء الصالحين هم في الحقيقة أحياء في قبورهم، وأنهم يحسون ويسمعون، ومن أجل ذلك يعتمدون على تفسير بعض النصوص التي تثبت سماع الأموات لكلام الأحياء، وهذا خلاف معروف بين العلماء يذكره علماء التفسير في تفسير قوله تبارك وتعالى في سورة النمل:{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}[فاطر:٢٢]، {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ}[النمل:٨٠ - ٨١].
فيستدل الفريق هنا بما فيه خلاف بين المفسرين، فبعضهم يثبت أن الموتى يسمعون كلام الأحياء، ويستدلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا زار المقابر قال:(السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين)، ويخاطبهم بصيغة المخاطب، ويستدلون بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل قليب بدر:(ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، وذلك حينما خاطبهم فقيل له: يا رسول الله! أتخاطب قوماً قد جيفوا، حتى إن بعض علماء السنة يذهب ويجنح إلى هذا، كالإمام الحافظ ابن قيم الجوزية في كتابه الروح، ومن المعاصرين: العلامة القرآني الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله حيث فصل هذا البحث، ورجح أن الموتى يسمعون كلام الأحياء ويحسون بهم، وربما اعتمد بعض المصنفين على بعض المنامات والحكايات في هذا الباب، وهذا كخلاف فقهي ليس له هذه الحاسية الخطيرة، لكن الخطر هو في أن بعض الصوفية يأخذون من هذا الخلاف منطلقاً إلى الغلو في الصالحين ودعائهم من غير الله عز وجل، ومن هنا يقعون في هذه الشبهة، ولعل من الكتب القيمة جداً التي حققت هذه المسألة:(الآيات البينات في حكم سماع الأموات) تأليف الشيخ نعمان الألوسي وهو ابن محمود الألوسي المفسر الكبير، صاحب كتاب: جلاء العينين في محاكمة الأحمدين، وهو كتاب قيم بتحقيق وتعليق الشيخ: ناصر الدين الألباني يرحمه الله، فليراجعه من شاء.
على أي الأحوال: فأول ما يعتمد عليه هؤلاء الذين يقعون في هذا الشرك من دعاء غير الله عز وجل: أن الصالحين أحياء في قبورهم، وأنهم يحسون، وأنهم يسمعون، ويقولون: إن دعاءنا الميت ليس أننا نطلب الميت نفسه لكننا نطلب دعاءه، ونطلب منه أن يشفع لنا إلى الله عز وجل، وبناءاً على هاتين المقدمتين: أن الأموات أو الصالحين في قبورهم أحياء ليسوا بموتى، وأنهم لا يدعون الميت نفسه، لكن يطلبون منه أن يدعو لهم الله عز وجل، وطلب الدعاء من الشخص الحي جائز بلا نزاع، فقالوا: لا وجه للتفريق بين الحياة في الدنيا والحياة في البرزخ! وهذا كلام فيه فساد كبير، وإذا قلت لهم: لكنكم تتوجهون بالطلب إلى الميت مباشرة، وهذه هي حقيقة دعاء غير الله عز وجل، قالوا: الشخص الذي يفعل هذا مخطئ في التعبير، يريد وساطة الميت أو شفاعته بالدعاء كما يشفع الحي من الناس إلى أخيه بالدعاء الصالح له، فهذا خطأ ينبه عليه من يفعله؛ لأن المقصود من الميت هو مجرد الدعاء والشفاعة إلى الله، ويقولون: نحن نجزم أن الميت لا يقدر بنفسه على شيء من النفع والضر، ولا التصرف في شيء من دون الله، والواسطة الشركية هي التي يعتقد مشاركتها في التأثير بالرزق، أو الخلق، أو الإحياء، أو الإماتة، لا التي يستشفع بها ويطلب منها الدعاء.
أيضاً قالوا: قد يأتي الاستشفاع بالشخص في صورة الطلب المباشر منه، فيكون من باب نسبة الشيء إلى سببه، ولذلك نظائره في السنة الشريفة، وهذا كله محاولة للهروب من حقيقة هذا المنكر بضروب من التأويلات المختلفة.
ومما يلبسون به على الناس ويستدلون به في هذا المقام: ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي فراس ربيعة بن كعب الأسلمي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو من أهل الصُفَّة رضي الله عنه- قال:(كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال: سلني؟ -يعني: أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يجازيه على هذه الخدمة التي يخدمها إياه- فقال: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: فأعنّي على نفسك بكثرة السجود)، قالوا فهذا ربيعة يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرافقته في الجنة، وكان هذا جواباً منه عن قوله صلى الله عليه وسلم: سلني؟ ومعلوم أن الجنة والنار بيد الله عز وجل، وأن دور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو مجرد الشفاعة والدعاء، وما من شك أن ربيعة كان يعلم ذلك، فجاء طلب الشفاعة في صورة طلب المقصود من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، بل قال له: فأعني على نفسك بكثرة السجود.
فالمقصود: ماذا تريد أن أدعو الله لك به؟ والقياس هنا هو قياس مع الفارق؛ فهناك فرق بين الحياة البرزخية وبين الأحياء على الحقيقة في هذه الدنيا، فهم يقولون: يرجع الأمر النهائي إلى التوسل، والتوسل موضع نظر، وقد أجازه كثير من أئمة العلم، والمقصود من الكلام في هذا السياق: بيان ما يعتمد عليه القوم من الشبه والتأويلات في استجازة ما يدعون به من البدع والخرافات، فمع الجزم بأن هذه الشبه متهافتة، وأن هذا التأويل فاسد وباطل، لكن لا يسعنا إلا أن نسلك القوم في عداد المبتدعة مع وجود هذه الشبهات، خاصة إذا كانوا من العوام البسطاء الذين يلبس عليهم بالآيات وبالأحاديث بعد تحريفها عن معانيها، فلا نتردد في أن نسلكهم في مسلك المبتدعة المنحرفين، لكن نتردد أطول ونتوقف كثيراً كثيراً قبل تكفير شخص معين منهم ينحو هذا المنحى بمثل هذا التأويل، فهذا النوع من التأويل نثبت عليه الأمر من باب الالتزام بطاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ما يفعله ليس منافياًَ للتوحيد الذي أقر به في كلمة الشهادة، فمثل هذه الأدلة التي تجدونها في كتب بعض الصوفية، وما كتب الغماري منكم ببعيد، وأنت إذا طالعت كتب أغلب العائلة الغمارية سواء أبو الفيض أو أبو الفضل تجد كثيراً من الشبهات التي يدافعون بها عن مثل هذه الضلالات بشتى التأويلات والتمحلات.