للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الجذور التاريخية لفكر التكفير]

ثم تطرق الشيخ إلى بحث مهم جداً يتعلق بالجذور التاريخية لفكر التكفير، وبدأ بظاهرة التكفير عند الشيعة، يقول: ينبغي أولاً استعراض الفترة من مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وما لحق بذلك من اقتتال المسلمين في حروب الجمل وصفين والنهروان.

يعني: وقع ما يمكن أن يسمى بالحروب الأهلية بين المسلمين، وكان من البداهة أن يثور الجدل والنقاش حول من يكون الحق معه، ومن هو على غير الحق، لماذا يقف هؤلاء في طرف، وهؤلاء في طرف آخر، بينما يقف آخرون على الحياد؟ يقول الشيخ المودودي رحمه الله: نتيجة لهذه الأسئلة ولدت بعض النظريات المستقلة بذاتها، كانت في أصلها نظريات سياسية خالصة، ثم ما لبث دعاتها أن اضطروا شيئاً فشيئاً لأن يرتبوا لها بعض الأسس الدينية، كي يقووا جانبهم ويحصنوا موقفهم، فتبدلت الفرق السياسية رويداً رويداً إلى فرق مذهبية، وما حصل في البداية من قتل وسفك دماء، واستمر بعد ذلك في عهد بني أمية وبني العباس فلم تبق القضية قاصرة على مجالات العقيدة إلخ.

ومعروف قضية الاختلاف حول الخلافة.

وحصل تطور في عقيدة الشيعة عن طريق عبد الله بن سبأ اليهودي أو ابن السوداء أدى إلى تبلور المذهب الشيعي في صور عقائدية محددة كانت تخرج بأصحابها عن أصول الدين، وأصول العقيدة، ومعروف قصة الوصي، وحينما ادعى ابن سبأ أن لكل نبي وصياً، وأن وصي النبي عليه الصلاة والسلام هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحينما وضع مصطلح الإمامة بدل مصطلح الخلافة، واعتقدوا في الأئمة أنهم يكونون كذا، وأنهم لا ينسون، ولا يخطئون، وكل ما يصدر عنهم فهو حق وصواب، وأن علياً هو الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الإمامة واجبة على الله -تعالى الله عن ذلك- وليست واجبة على الأمة، وحصروا الأئمة في الإثني عشر المعروفين، وأن الإمامة تكون بالنص وليست بالاختيار، وهكذا تفرقت طوائف الشيعة وتعددت، وحصل انحراف شديد جداً، حتى إن بعض هؤلاء الفرق الضالة من الشيعة زعموا بأن علياً هو الله، وزعموا أنه الإله، وأنه حي ويسكن القمر.

فحصل تكفير من طوائف الشيعة الأخرى لأمثال هؤلاء، هذه نظرة على أحد عوامل التكفير الأولى التي حصلت بتحول الخلافات السياسية إلى خلافات عقائدية، فبرزت أول ظاهرة في فرقة الشيعة وما لديهم من أفكار.

أما الخوارج فهم يأتون بعد الشيعة في هذه المسألة، وكانوا في البداية من أتباع وأنصار علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكانوا يقاتلون تحت رايته ويؤيدونه، ثم في حرب صفين لما طلب معاوية رضي الله عنه إيقاف القتال واللجوء إلى التحكيم لتصفية هذا النزاع، كان رأي علي رضي الله عنه استمرار القتال، ولكن جيشه رفض وطالب بقبول التحكيم، فاضطر لذلك، فلما خرج التحكيم خرج عليه طائفة من أتباعه رفضوا هذا التحكيم، ورفعوا هذا الشعار: لا حكم إلا لله، ففهموا أن تحكيم الرجال انحراف في قضية الحاكمية، فمن حَكَّم غير الله فقد كفر بالله، فكان رد علي بن أبي طالب عليهم بالكلمة المشهورة: (كلمة حق أريد بها باطل)، ثم بعث لهم عبد الله بن عباس لمناقشتهم وإقامة الحجة عليهم، فرجع الكثير منهم عن آرائهم، ولكن بقيت جموع منهم كبيرة مصرة على التكفير.

ثم انقسمت الخوارج أيضاً إلى فرق متعددة: إذ إن من خواص أهل البدع حصول هذا الانشقاق الداخلي الذي يجعل الفرقة الواحدة فرقاً شتى.

أما خلاصة نظريات الخوارج فتتلخص في أنهم يقولون بصحة خلافة أبي بكر وعمر، أما عثمان فقالوا: إنه انحرف -والعياذ بالله- في آخر خلافته عن العدل والحق، فكان يستحق القتل أو العزل، وإن علياً رضي الله عنه ارتكب كبيرة بتحكيمه غير الله، وإن الحكمين: عمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري ومن نصبهما من جميع أصحاب علي ومعاوية كلهم مذنبون، وأيضاً الذين اشتركوا في حرب الجمل جميعاً ارتكبوا ذنباً عظيماً، والذنب والمعصية عندهم تعني الكفر! فيكفرون كل مرتكب كبيرة ما لم يتب منها، ولذلك كفروا كل هؤلاء الصحابة الذين سبق سرد أسمائهم، بل لم يتورعوا عن لعنهم وسبهم، على أنهم كفروا عامة المسلمين أيضاً؛ لأنهم لم يستغفروا من الذنوب، فكفروا عامة المسلمين أيضاً بهذا؛ لأن عامة المسلمين يعتبرون الصحابة رضي الله عنهم ليسوا مؤمنين فحسب، بل يتخذونهم أئمة لهم، ويثبتون الأحكام الشرعية بالأحاديث التي تؤثر عن طريقهم.

أيضاً قالوا: إن الخلافة لا تنعقد إلا بالانتخاب الحر بين المسلمين وليست عن طريق آخر، وكانوا ينكرون ضرورة أن يكون الخليفة قرشياً، ويوجبون قتال الخليفة أو عزله أو قتله إذا حاد عن طريق العدل والصلاح، وكانوا يقبلون القرآن كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي.

أما السنة والإجماع فلهم فيها سبيل مختلف وشاذ عن سبيل عامة المسلمين، هذا هو السبب في موقف الخوارج من جمهور الصحابة الذين نقلوا السنة والإجماع.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فقال هؤلاء الخوارج: من مات إما مؤمناً أو كافراً، المؤمن هو من فعل جميع الواجبات وترك جميع المحرمات، فمن لم يكن كذلك فهو كافر مخلد في النار، ثم جعلوا كل من خالف قولهم أيضاً كذلك، فقالوا: إن عثمان وعلياً ونحوهما حكموا بغير ما أنزل الله، ظلموا وصاروا كفاراً، ومذهب هؤلاء باطل كما سيأتي -إن شاء الله- إثبات بطلانه بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة.

وافترقت الخوارج أيضاً وتشعبت إلى فرق شتى، وأهم خصائص هذه الفرق المنشطرة: أنهم يكفر بعضهم بعضاً، ويقتل بعضهم بعضاً، ويستحل بعضهم حرمات بعض، وقد انقسموا إلى أكثر من عشرين فرقة من أشدها المحكمة والأزارقة، ومن أقلها تعصباً الإباضية، وهم منتشرون حتى الآن في بعض البلاد العربية، ولهم السطوة في عمان، وعمان أصلاً دولة خارجية يغلب عليها مذهب الخوارج، وربما يوجدون أيضاً في الصحراء الإفريقية، أو ليبيا وبلاد المغرب العربي، ومع ذلك فهم يقولون بكفر كافة المسلمين، ويقولون: هم غير مشركين، وبالتالي يقبلون شهادتهم ويتزوجون منهم ويتوارثونهم.

وهناك فرقة من فرق الخوارج تسمى: النجدات العامرية، وصلت إلى ما نسميه اليوم بالفوضوية، فقالت: إن قيام دولة الخلافة غير ضروري إطلاقاً، وبإمكان المسلمين أن يعملوا بشكل جماعي متبعين الحق، ولكن يجوز انتخاب الخليفة إذا لزم ذلك.

أيضاً مما يلفت النظر بالنسبة للخوارج: أن الخوارج كانوا على درجة كبيرة جداً من الاجتهاد في العبادة، بل وربما وصفوا بالإخلاص، ولهم في ذلك أخبار لا ينقضي منها العجب، من شدة قراءة القرآن والتعبد والتبتل والتورع الزائد عن الحد، حتى إن أحدهم كان يمر فمر به خنزير لرجل من أهل الكتاب فقتله، فقالوا له: أنت ظلمت هذا الرجل الذمي، وقاموا عليه قياماً شديداً ولم يسكتوا حتى عوضوا ذلك الرجل وأرضوه.

وسقطت بلحة من النخل فالتقطها واحد منهم فأكلها، فثاروا عليه وقالوا: أكلتها بغير حقها، وأنكروا عليه حتى أخرجها، وهكذا كانوا يتورعون في أخف الأشياء، ثم هم على جانب كبير جداً من العبادة، ومع ذلك كانوا يتجاسرون ويجترئون على القدح في خيار الأمة، كما أشرنا من قبل إشارة عابرة إلى فرقة المعتزلة حين تكلمنا عن تاريخ الفرق، ثم بعد ذلك ظهرت فرقة الخوارج.

فإذا كانت الشيعة تقف في أقصى اليمين تكفر من خالف علياً رضي الله عنه، أو غالبه أو نازعه، فقد وقع الخوارج في أقصى اليسار، فهم يكفرون علياً ومن حاربه، ثم ظهرت فرقة المرجئة -والإرجاء بمعنى التأخير- فلم يعجبها تصرف كلا الفريقين: الخوارج والشيعة، فمالت نحو الحياد التام، وقالت: نحن نؤجل الكلام فيهم، وأمرهم متروك إلى الله يفصل فيه يوم القيامة.

ثم تطورت معاني الإرجاء إلى أن وصلت إلى مدرسة فكرية محددة، وأهم آرائهم: أن الإيمان هو الاعتراف بالله وبالرسول فحسب، وأن العمل ليس ضرورياً في الإيمان، وعلى هذا فالمرء يبقى مؤمناً حتى لو كان تاركاً للفرائض مرتكباً للكبائر، يعني: أن الفروق الأساسية بين أهل السنة والمرجئة: أنهم يقولون: إن الإيمان هو مجرد المعرفة، وإن أهله لا يتفاضلون فيه، وأنه لا يزيد ولا ينقص، ولا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.

على أي الأحوال لم تستجب الأمة الإسلامية بأسرها لهذه الاتجاهات، وكان الجمهور الأعظم والسواد الأعظم من الأمة الإسلامية بعيداً كل البعد عن الانخراط وراء هذه الفرقة، بالذات في عهد الخلفاء الراشدين، وكان جمهور المسلمين في تلك العصور الأولى ينظرون إلى هذه النظريات على أنها فرق ضالة خارجة عن عقيدة أهل السنة والجماعة والفرقة الناجية.

<<  <  ج: ص:  >  >>