[خاتمة البحث في منهج سيد في كتاب المعالم]
أختتم الكلام بتعليق الدكتور جعفر شيخ إدريس على المناقشات حول بحثه، قال الدكتور جعفر حفظه الله: لقد عجبت لبعض الإخوان الذي طلبوا مني أن أتحدث عن كل فكر سيد قطب؛ لأن طريقتي في البحوث التي تقدم للمؤتمرات أن أتكلم عن جزئية واحدة، فأنا لا أكتب كتاباً، وإنما أكتب بحثاً في حدود عشرين صفحة، ولقد دلتني تجربتي على أنه إذا كان البحث أكبر من ذلك فإنه لا يقرأ، وأنا في البحث أتحدث عن قضية جزئية هي المنهج، والمنهج في كتاب المعالم، وأما: ولماذا كتاب المعالم؟ فلأنه -كما قلت- أكثر الكتب الإسلامية انتشاراً، وأكثرها تأثيراً، لهذا اهتممت به، وكما قال بعض الإخوان: فإنه يمثل مرحلة من مراحل سيد قطب رحمه الله.
ومن خصائص سيد قطب في هذا الكتاب أنه ينتقد نفسه، أي: ينتقد المراحل التي تحدث فيها عن العدالة الاجتماعية، ومعركة الإسلام والرأسمالية، وأنا لا أوافقه على ذلك، بل أعتقد أن هذه الكتابات كانت مهمة لما يسميه هو قضية العقيدة.
وهذا مثل قول بعض العلماء: إن شيخ الإسلام في آخر حياته في سجنه الأخير ندم على الوقت الذي أنفقه في المجادلة الكلامية والرد على أهل البدع والمناطقة والفلاسفة وغيرهم، وأنه كان يود لو أنه اشغل هذا الوقت بالقرآن وبتدبر القرآن؛ لما شعر من عظم الفائدة التي فتحت عليه لما خلا بالقرآن، ورد على ذلك بعض الناس وقالوا: لو أن ابن تيمية لم يكتب هذه الأشياء لحرمنا من خير كثير عرفناه من خلال ردوده على هؤلاء.
كذلك هنا الأستاذ سيد في مقدمة المعالم انتقد نفسه في المراحل السابقة في كتاب: (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، و (معركة الإسلام والرأسمالية)، والكتابات الأولى.
فهنا يقول الدكتور جعفر: أنا لا أوافق على ذلك.
ويذكر دليله على أنه لا ينبغي انتقاد هذه المؤلفات الأولى، يقول: كنت قبل أن أقرأ كتب سيد قطب منضماً إلى جماعة سلفية في السودان، وكنت أعرف عنها تفاصيل العقيدة، وما أظن أنه كانت لي مشكلة، ولكن حينما واجهت الشيوعيين وقالوا لي: إن الإسلام ليس فيه نظام اقتصادي إلى آخره أصار حكم بأني -وأنا طالب بالثانوية آنذاك- شعرت بالزعزعة، والذي رد إلي اليقين والاطمئنان هو كتابات سيد قطب في تلك المرحلة، فالذي أنتقده عليه أنه ظن أن الدخول في هذه التفاصيل من اقتصاد وغيره لا يكون إلا لشيء عملي للدولة، لكنه مهم من الناحية الفكرية كما دلتنا تجربتنا، فأنا لا أتحدث عن كل ما كتب سيد قطب، وإنما أتحدث عن قضية واحدة في كتاب واحد.
ثم قال: إن هذا الكتاب -المعالم- ناقشناه في السودان منذ سنين طويلة؛ لأن السودان في ذلك الوقت كان ينعم بالديمقراطية، ومن دون البلاد العربية الأخرى كما أظن، وكان رد فعل الكتاب واضحاً عند الناس، وكانوا يناقشونه، لذلك قضيت شهرين في جلسات عامة كهذه في الجامعة تناقش كتاب: (معالم في الطريق)، وما أستطيع أن أصف لكم كيف كان رد فعل الطلاب عندما أقول لهم: إن سيد قطب أخطأ هنا وأخطأ هناك.
حتى إن أحدهم قال لي بعد أن كبر وتخرج من كلية الشريعة: كنت في البداية لا أقبل شيئاً مما قلت.
لكنه بعد التفكير وبعد أن مر بخبرات كثيرة قبل بعض ما قلت، ثم إن هذا أصبح له منهجاً، وأصبح لا يقبل الكلام الذي يقال له في الكلية إلا بدليل، قلت له: لقد قلت لنفسك: ما دام سيد قطب قد أخطأ فمن مالك؟ ومن الشافعي وغيرهما؟ ومع كل هذا فلا ينبغي أن نقلل من تأثير سيد قطب رحمه الله، سواء تأثيره بشخصه أم بكتبه، خاصة كتاب المعالم.
أما مسألة الصحابة فلم أذكرها؛ لأنها مسألة أقرها، ولقد أقرها الدكتور القرضاوي حيث قال: إن بعض الأفراد وصلوا إلى هذه الدرجة.
ولكن قد يؤخذ عليه المنهج؛ لأنه علق هؤلاء الشباب بشيء لا يمكن أن يصلوا إليه، وهذا يصيبهم بشيء من الإحباط، وتكلمنا عن هذه النقطة بالتفصيل من قبل.
أما مسألة المجتمع الإسلامي فـ سيد قطب يعتقد أن الشيء المثالي هو الذي يذكره القرآن، وأنه هو الصورة الوحيدة، وكل ما نقص عنها فليس بإسلام، وهو بذلك علق الشباب بصورة مثالية لا يستطيعون أن يصلوا إليها، وأعطاهم صورة للمجتمع الإسلامي، أو لنظام الحكم الإسلامي ما زالت مؤثرة في كثير من الناس، وكل شيء ينقص عنها فهو ليس إسلامياً، وبذلك لا توجد حكومات إسلامية، ولا مجتمع إسلامي منذ عهد الخلفاء الراشدين كما يرى كثير من الناس.
وأقول: إن هذا ضار من ناحية المنهج؛ لأن سؤالاً ملحاً سيظل يسأله الإنسان لنفسه: من أنت؟ ومن هؤلاء الذين يستطيعون أن يحققوا في القرن الخامس عشر ما لم تستطع أن تحققه كل أجيال المسلمين طول هذه المدة مع كل ما نعرف فيها من قمم شامخة في العلم وفي السلوك؟! وأظن أن الذي نهتم به ينبغي أن لا يكون تبرئة سيد قطب رحمه الله مما قال، مع أني لا أدري ماذا كان يعني بالضبط؟ ولكن كلماته إذا أخذناها على ظاهرها تدل على ما قلت، وأهم من ذلك: أن الناس فهموا من هذه الكلمات هذه المعاني التي ننتقدها وفهموها على غير تواطؤ منهم، فقامت عندنا جماعات في السودان في الستينات تقول مثلما قالت جماعات في مصر وفي اليمن من غير اتصال بينهم ولا تعارف، وكان الجامع بينهم هو هذا الكتاب.
أما مسألة معابد الجاهلية فأذكر أن بعض هؤلاء الذين كانوا يأتونني كانت أهم قضية يتحدثون معي فيها هي اعتزال معابد الجاهلية -أي: المساجد-، فقلت لهم: والله إنكم شياطين، فأرجى عمل عندي هو أن أذهب إلى المسجد، وأنتم لا تقولون لي: اترك الجامعة، أو اترك السوق، وإنما تقولون: اترك المسجد باعتباره من معابد الجاهلية.
فتلك ظاهرة فهمها الناس من فكر سيد قطب، وتهمنا في تصحيح مسار الحركة الإسلامية.
وأقرر أن سيد قطب لم ينكر الفقه ولم ينكر السنة، ولكنه كان يقول: في هذه المرحلة الأولية ينبغي أن لا نهتم بالفقه.
نعم إنه تأثر بـ أبي الأعلى، ولكن تأثره بـ أبي الأعلى كان بالكتابات الأولى لهذا الأخير، فلـ أبي الأعلى كتاب اسمه: (منهاج الانقلاب الإسلامي)، وهو -أيضاً- صورة مثالية لا يمكن أن تتحقق، ولكن لأن أبا الأعلى كان يقود حركة ويعمل ويواجه الناس، الأمر الذي لم يتح للأستاذ سيد قطب رحمه الله الذي ظل طوال المدة مع كتبه ومع فكره، من أجل ذلك فقد غير كثيراً من هذه الأفكار المثالية، ومنهاج الانقلاب الإسلامي الذي كنت أحفظ بعض عباراته وكنت متحمساً لها، مثل: إن الناس الموجودين الآن في هذا المجتمع لا يصلح أحدهم لأن يكون جندياً في المجتمع الإسلامي.
وهذه صورة مثالية أخذها سيد قطب عنه، كما أخذ عنه مسألة تفسير (لا إله إلا الله).
فـ سيد قطب لا يقول فقط: إن المجتمع الذي يستحل ما حرم الله كافر؛ لأن هذه مسألة معروفة، وما كانت تثير جدلاً، ولكنه يقول كلاماً خطيراً، خاصة إذا أخذنا كلماته بظاهرها، وأظن أن مشكلة سيد قطب رحمه الله: أن دراساته الأولى كانت في النقد الأدبي حيث يباح للإنسان الاسترسال، وأن يقول ما شاء من الكلمات؛ لأنه شيء لا ينبغي أن ينبني عليه عمل، وإنما هو يتذوق نصاً أمامه، فهو أولاً لم يكن فقيهاً، لم يكن فيلسوفاً، لم يكن منطقياً، لم يكن قانونياً، تلك كانت دراساته الأولى، لهذا فإني أحذر من أخذ كلماته على ظاهرها، ولكننا لا نستطيع أن نقول لكل الناس: افعلوا هذا.
خاصة في مثل قوله: إن وجود الأمة المسلمة يعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة، فالأمة المسلمة ليست أرضاً كان يعيش فيها الإسلام، وليست قوماً كان أجدادهم في عصر من عصور التاريخ يعيشون بالنظام الإسلامي.
بهذا نكون مررنا على البحث والتعليقات التي كانت عليه.