معنى إقامة الحجة أو صفة قيام الحجة -كما قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى- أن تبلغه، فلا يكون عنده شيء يقاومها.
وقد ذكر بعض العلماء أن من شروط إقامة الحجة أن تكون من إمام أو نائبه، أي: من إنسان ذي سلطان يبين ذلك، وقال بعض العلماء: بل الواجب على كل أحد قبول الحق ممن قاله كائناً من كان.
وقال بعض العلماء: الحجة على العامة لا تقوم إلا من خلال من يثقون به من أهل العلم؛ لأن العامة فرضهم سؤال أهل الذكر، ولا شأن لهم بالنظر في النصوص أو استنتاج الأحكام الشرعية منها، وقد تقوم عليهم برجل ولا تقوم عليهم بآخر، ولا ضابط لمن ترد إليه الفتيا بالنسبة لهم إلا التسامع والاستفاضة، وفي مثل هذا تتفاوت الاجتهادات، والحجة على العامة غير الحجة على العلماء، فالعامة يثقون بأهل الذكر فحسب، والواجب عليهم هو أن يسألوا أهل الذكر، والغالب عند العامة أن الشخص المعتد به عندهم هو من استفاض وانتشر في المجتمع الشهادة له بالعلم، وبرز أمامهم كرمز للعلم الشرعي والفتيا وغير ذلك، ففي مثل هذا الأمر يتفاوت الاجتهاد في قيام الحجة بهذا الشخص أو بهؤلاء الناس، من عدمه.
والحجة على أهل العلم ليست كالحجة على العامة، فالحجة على أهل العلم تقوم بالأدلة الشرعية المعتبرة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وقد يحسن عرضها رجل ولا يحسن عرضها رجل آخر، فكم من حامل حق لا بصيرة له في إحيائه، وكم من قضية عادلة أضاعها محامون فاشلون، فقد يكون الإنسان معه الحق لكن ليس عنده الأدوات التي تمكنه من الانتصار لهذا الحق، وحينئذٍ يعجز عن إقامة هذا الحق، وفي الحقيقة أن كثيراً من الناس يحسنون الظن بأنفسهم بمجرد أن يطلع أحدهم اطلاعاً يسيراً، فإنه يغتر ويكون صاحب الشبر، وصاحب الشبر هو الذي إذا بدأ يتعلم أشياء يسيرة يغتر ويتكبر على الناس ويختال، ويظن أنه صار شيخ الإسلام وعمدة الأنام، فإذا تعلم الإنسان شبراً آخر تواضع، فإذا تعلم شبراً ثالث علم أنه لا يعلم شيئاً، وعبر عن ذلك الإمام الشافعي رحمه الله تعالى فقال: كلما أدبني الدهر أراني نقص عقلي.
وإذا ما ازددت علماً زادني علماً بجهلي.
خاصة طلبة العلم الذين ليس لهم فيه قدم راسخة، فإنهم يغترون، فيظن أحدهم بنفسه أنه أقام الحجة وهو لا يحسن إقامة الحجة، مثل المحامي الفاشل، فلذلك لا ينبغي أن يجزم الإنسان بأنه أقام الحجة إلا إذا تحرر من الأهواء، وتسلح بالعلم النافع الذي يستطيع به أن يدفع جميع شبهات الخصم حتى لا يبقى له مدفع أبداً للحق الذي بلغه، فليس كل من حفظ دليلاً أو دليلين في مسألة تقوم بمثله الحجة، بل الأصل في الحجة أنها لا تقام إلا بالمجتهد أو بذي سلطان أو أمير مطاع، فهذا هو الذي عبر عنه الفقهاء بذي السلطان، وهو في الحقيقة أقرب إلى عمل القضاء، فهي قضية إجرائية أكثر من كونها قضية تمس العقيدة، فتتبع الشخص الذي فعل الكفر في كونه معذوراً أم غير معذور، وجاهلاً أم غير جاهل، وفي تأوله كل ذلك يقتضي وجود نوع من العلم الشرعي بدرجة عالية من العلم، حتى نستطيع أن نجزم بأن فلاناً قد قامت عليه الحجة التي يكفر من خالفها.