حكم قبول التكليف من جهة ما لمصلحة أو دفعاً لمفسدة
قد يقبل الإنسان التكليف من جهة ما جلباً لمصلحة أو دفعاً لمفسدة، أو مداراة لها واتقاء الفتنة مع عدم إقراره بهذا التكليف، أو عدم إقراره بحق من أصدره في التشريع المطلق، وهذا له تعلق آخر بالقضية، ولا يستوي مع من قبله إنسان التزم حكماً، وقبل تكليفاً من جهة ما، ولا يعتقد أن له حق في التشريع، لكن جلباً للمصلحة أو دفعاً للمفسدة، أو مداراة لها واتقاء لأذيتها أو فتنتها، مع إقراره بأن هذه الجهة ليس لها حق التشريع، أو حق من أصدر هذا التكليف في التشريع المطلق.
هذا مناط آخر يتفاوت حكمه من صورة إلى أخرى بحسب حجم المخالفة في فعل هذا الإنسان، ومدى العذر في خضوعه لهذا التكليف، وغير ذلك من الملابسات، وجه ذلك: أنه إذا كان ممن يخضع لشرائع الإسلام، ويذعن لأحكام الإسلام لا يكون خضوعه هذا معتبراً شرعاً يثبت له به عقد الإسلام على الحقيقة إلا إذا كان مرده الإيمان بهذه الأحكام، والإقرار بها في الظاهر والباطن، فمن استسلم لأحكام الإسلام؛ لأنها أحكام الله؛ وشريعة الله عز وجل، فهذا يعتبر شرعاً إيماناً صحيحاً.
كذلك من يخضع لشرائع الجاهلية، أو يقبل الطاعة لها عندما تكون هي الحاكمة المسيطرة لا يكون خضوعه هذا ناقضاً لإسلامه، مثلاً لو: أن الغربيين أو أي دولة من دول الكفر قالت: نحن درسنا النظام الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي في الإسلام فوجدناه مناسباً، ويحصل لنا به مصالح كثيرة، ويدفع عنا شروراً كثيرة، ونحن سنطبقه من هذه الوجهة، لا أنهم قبلوا حكم الله عز وجل إذعاناً لله؛ لأنه أمر الله؛ وشريعة الله، لكن قبلوا لأن فيه مصالح قد تتحقق لهم، مثل تشريع الطلاق، والمواريث، ونحو هذه الجوانب، هل يصيرون بذلك مسلمين لأن النية مفتقدة، والإسلام والخضوع لله غير موجود؟! كذلك في الجهة الأخرى مجرد الإذعان لشرع الله إذا لم يكن مقترناً به الإقرار بحق الله تبارك وتعالى في التشريع والحاكمية المطلقة، فلا يعتد به شرعاً، ولا يثبت به عقد الإسلام.
كذلك شخص في الصورة الأخرى المقابلة خضع لشرائع الجاهلية، أو قبل الطاعة لها، حينما يكون هو الحاكم المسيطر، فلا يكون خضوعه هذا ناقضاً لإسلامه إلا إذا تأسس على مبدأ القبول الطوعي الإرادي لها في الظاهر والباطن، والإقرار لها بالحق في التشريع المطلق، دون معارض من جهل أو تأويل أو إكراه، يعني: لا هو جاهل ولا متأول ولا مكره، ولا يوجد له أي عذر، فإذا كان الإنسان يقبل الطاعة لهذه النظم الجاهلية أو الأحكام الوضعية الكفرية، فمجرد الخضوع في حد ذاته لا يكون ناقضاً للإسلام إلا إذا تأسس على الإقرار الباطن والظاهر بأحقيتها في التشريع، والسيادة المطلقة، والتشريع المطلق، دون عارض من جهل أو تأويل أو إكراه، لكن إذا كان قبوله لحكم هذه الجهة مؤسساً على المصالح والمفاسد أو مؤسساً على المداراة، واتقاء الفتنة، وليس شرطاً أن تكون مصالح ومفاسد شرعية، ربما يكون لغرض منفعة شخصية أو غير ذلك، فقد تكون معصية لكن لا تكون كفراً، فإذا كان قبوله الطاعة لهذه الهيئة مؤسساً على المصالح أو المفاسد أو المداراة واتقاء الفتنة، ولم يؤسس على الإقرار بحقها في الطاعة المطلقة، فقد تجاوز موقفه هذا أصل الدين، هنا لا يخدش أصل الدين عنده، ولا يخدش عقد الإسلام والتوحيد، وأصبح تعلقه بفروع الدين لا بأصوله ولا بالعقيدة.
ثم ينظر بعد ذلك في مدى ما ترتب على هذه الطاعة من مخالفة للشريعة، ومدى ما قام عنده من العذر، ويقرر لكل حالة حكمها حسب العذر، وحسب ما ترتب على هذه المخالفة من آثار، فمثلاً الذين يعملون في المؤسسات العلمانية في ظل الأنظمة العلمانية المعاصرة ليسوا سواءً في مجالس إجراء الأحكام، وإن كان الظاهر في عامتهم أنهم قد قبلوا التكليف من غير الله عز وجل، فالظاهر أن الناس خاضعين ومذعنين لهذه الأحكام أو النظم العلمانية، فعامة هؤلاء الناس الذين يدخلون في هذه المؤسسات العلمانية طائعين، وهم يعلمون سلفاً أن لهذه المؤسسات شرائع وأنظمة ولوائح تخاطب كافة العاملين في هذه المؤسسات، ويلزمون بها، ويعلمون كذلك أن من سنوا هذه التشريعات وقرروا هذه اللوائح طائفة من البشر لم يهتدوا بهدي الله، ولم يردوا أمرهم إلى شريعة الله، وإنما مردهم إلى الأهواء والمصالح التي قد تتفق أحياناً مع شريعة الله، وقد لا تتفق، ومع ذلك ربما يبعد تصديقنا لهذا الكلام من الكاتب، وإن كان هذا هو مآل قاعدته التي يترتب عليها: أن مجرد قبول التشريع كفر.
هذا فيما يتعلق بهذا الأمر.
فهؤلاء الذين دخلوا في هذه المؤسسات وحالهم كما ذكرنا إن قال قائل عنهم: هؤلاء لا خيار لهم في الخضوع لهذه النظم؛ لأنها قواعد آمرة من جهة ذات سلطان ملزم لا يد لهم في تغييرها، فالجواب أن نقول: لكن هؤلاء قد كان لهم الخيار ابتداءً في عدم الالتحاق بهذه الهيئات من البداية، فهم وإن كانوا مكرهين في الخضوع لأنظمة هذه الهيئات بعد الدخول فيها فقد كانوا طائعين في دخولها منذ البداية، فضلاً عن قدرتهم على الانفصال عنها في أي لحظة.
فلا يخفى وجود فارق بين رجل الشارع الذي لا يد له بعدم الخضوع للنظم العلمانية التي تلاحقه بحكم وجوده تحت مظلة هذه النظم العلمانية اللهم إلا إن كان يستطيع الهجرة منها، فلا شك أن هناك فرقاً بين هذا الرجل وبين العاملين في هذه الهيئات التي التحقوا بها في أغلب الأحيان طائعين مختارين وهم يعلمون سلفاً أن التحاقهم بها يترتب عليه قبولهم لأنظمتها التي لم تظهر مستندة إلى كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وآله وسلم.
ومع ذلك فلا يعرف أحد من علماء أهل السنة المعاصرين قضى باستصحاب أصل الكفر في هؤلاء تأسيساً على هذه القاعدة، ولا يعلم أحد من العلماء عمم الكفر على هؤلاء جميعاً بأي صورة من الصور.
كذلك من جهة أخرى قد يكون قبول التكليف مرده إلى العقد الذي أبرم بين طرفين بتحقيق مصلحة مشتركة، فمثل ذلك قد يكون جائزاً، وقد يكون ممنوعاً، فما كان منه من جنس الشرك فهو ممنوع، وما كان دون ذلك فهو دون ذلك، لكن ليس في ذلك أصل واحد يستصحب وإنما يختلف الحكم باختلاف المعقود عليه من حيث موافقته للشريعة أو عدمه.
فهذا أيضاً ينطبق على العاملين في مؤسسات خاصة، فهم يخضعون لما قرر لها أربابها من النظم واللوائح، ويلتزمون بطاعة رب العمل، والخضوع للرؤساء بمقتضى ما أبرم بينهم وبين هذه المؤسسات من عقود، قد يكون أصحاب هذه المؤسسات ممن لا يدينون أصلاً بدين الإسلام، ومع هذا فإن المقطوع به في مثل هذا المقام اختلاف الحكم في هذه الأعمال باختلاف موضوعها، ومدى ما تضمنته نظمها من موافقة للشريعة أو مخالفة، فالعمل في بنك ربوي مثلاً، أو في مرقص ليلي يختلف عن العمل في متجر أو مزرعة.
والعمل في مجال أمور إدارية يختلف عن العمل في مجال القضاء حيث الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل، وهنا تبدو المجازفة في إطلاق القول بأن مجرد قبول التكليف من غير الله شرك أكبر مهما كان موضوع التكليف سواء وافق الشريعة أو خالفها، فمع حسن الظن بنية الكاتب ومن ينحون منحاه إلى هدف من وراء هذا الكلام، وهو -فيما نظن- تربية الأمة على الكفر بالطواغيت، وعدم الإقرار لها بحق التشريع، وتجريد الانقياد لله عز وجل وحده، إلا أن مجرد هذه النية وحدها لا تكفي في الحكم على صحة هذا المسلك إلا إذا اعتمدنا وصححنا مذهب الخوارج في التكفير بالمعصية.
إذاً: نصحح مذهب الخوارج الذين كفروا بالمعصية، بحجة أن الخوارج يربون الأمة على استعظام المعاصي، ويحولون بينهم -بهذا الوعيد- وبين ارتكاب هذه المعاصي، يعني: الغاية لا تبرر الوسيلة.
أيضاً قول الكاتب: إن الطاعة في التشريع تتضمن الإقرار بالتشريع لغير الله عز وجل وهو شرك.
هذا الكلام ليس على إطلاقه، فهو يقول: إن مجرد الطاعة في التشريع، والانقياد تتضمن الإقرار بالتشريع لغير الله عز وجل، وهذا شرك أيضاً كما ذكرنا آنفاً، هذا القول ليس على إطلاقه، بل الطاعة في التشريع من غير الله عز وجل قد تتضمن الإقرار بالتشريع لغير الله وقد لا تتضمن، فإن كانت كذلك كان الحكم فيها كما قال: إن كانت الطاعة ناشئة عن إعطاء حق التشريع المطلق لغير الله عز وجل، وعن إقرار هذا الحق فهذا شرك، وإن لم يقترن بها الإقرار بهذا الحق في التشريع ففي الأمر تفصيل، ويختلف أيضاً الحكم باختلاف موضوع هذه الطاعة، فمن أطاع في تشريع إقراراً بحق من أصدره بالتشريع من دون الله ومتابعة له على ذلك كان مشركاً بالله عز وجل.
ومن أطاع في التشريع لأسباب أخرى فقد تجاوز هذا المضيق، وكان حكمه حكم ما أطاع فيه، إن كان أطاع في كفر فهو كفر في فسوق فهو فسوق في معصية فهو معصية، فالذي نستطيع أن نخلص منه من عبارة الكاتب في هذه المسألة: أن تقييد الطاعة بالطاعة الشركية، أي: إن كان في الطاعة شرك فتكون شركية، وإلا ففي الأمر تفصيل كما ذكرنا؛ لأن الطاعة في التشريع ليست في كل حالة تكون شركية، فمنها ما هو من جنس الشرك ويأخذ حكمه، ومنها ما هو دون ذلك.
فرق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين من أطاع الأحبار والرهبان فيما أحدثوه لهم من التحليل والتحريم من بني إسرائيل في اعتقاد ما قالوه دون ما قاله الله ورسوله، وبين من أطاعوهم في معصية الله مع صحة اعتقادهم في حكم الله، فبين شيخ الإسلام: أن الطائفة الأولى مشركة كافرة، وهي التي أطاعت الأحبار والرهبان في أمور تخالف الدين، واعتقدوا كلام الأحبار والرهبان دون كلام الله ورسوله الذي أرسل إليهم، فهذه الطائفة بين شيخ الإسلام أنها طائفة مشركة كافرة.
أما الطائفة الثانية: فهم الذين أطاعوا الأحبار والرهبان في معصية الله، مع صحة اعتقادهم في حكم الله، فهم يعتقدون أن هذا حكم الله، لكنهم اتبعوا الأحبار والرهبان اتباعاً للهوى وانقياداً للدنيا، فهذه الطائفة الثانية مذنبة عاصية.
فجعل شيخ الإسلام الطاعة في التشريع، منها ما هو شرك، ومنها ما هو دون ذلك حسب صحة الاعتقاد وأثره، لكن لا شك أن هناك فرقاً بين كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وبين كلام الباحث صاحب حد الإسلام في أن مطلق الطاعة في التشريع كفر