[كلام ابن أبي العز في الاستثناء في الإيمان]
هذه المسألة أيضاً تعرض لها شارح الطحاوية رحمه الله تعالى بشيء من التفصيل، وهذه المسألة أحياناً يترتب عليها خلافات عديدة ومذمومة في نفس الوقت، فعند بعض المذاهب -كالأحناف- من قال: أنا مؤمن إن شاء الله، يقولون: هذا شاك في إيمانه، ومن ثم قال بعضهم: إن الحنفي لا يصح أن يتزوج شافعية؛ لأن الشافعية تشك في إيمانها؛ لأنهم يجيزون أن تقول: أنا مؤمنة إن شاء الله، فخرج عالم من المتأخرين لعله أبو السعود العمادي صاحب تفسير: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، خرج الشيخ أبو السعود رحمه الله بقول أعجب من ذلك فقال: بل يجوز للحنفي نكاح الشافعية قياساً على الكتابية! ولا حول ولا قوة إلا بالله! يقول شارح الطحاوية رحمه الله: ومن ثمرات هذا الاختلاف: مسألة الاستثناء في الإيمان، وهو أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، والناس فيه على ثلاثة أقوال: طرفان ووسط، منهم من يوجبه، ومنهم من يحرمه.
أي: من الناس من يوجب أن تجيب وتقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ويوجب الاستثناء، ومنهم من يقول: يحرم عليك أن تقول: إن شاء الله، بل تقول: أنا مؤمن.
ومنهم من يجيزه باعتبار ويمنعه باعتبار.
وهذا أصح الأقوال.
يعني: أنه يقول: المسألة فيها تفصيل، ولكن هذا أصح الأقوال.
قال: أما من يوجبه -أي: الاستثناء- فلهم مأخذان: أحدهما: أن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً أو كافراً باعتبار الموافاة -باعتبار حالة التوفي؛ فإنما الأعمال بالخواتيم- وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به.
فالإيمان الحقيقي والنافع هو ما ختم لصاحبه به، فالعبرة بعلم الله بخاتمتك ونهايتك أن تكون على الإيمان أم على غير ذلك، والعياذ بالله! فهذا هو علم الله عز وجل بخاتمتك، أما ما قبل الخاتمة فلا عبرة به.
قالوا: والإيمان الذي يعقبه الكفر فيموت صاحبه كافراً ليس بإيمان؛ كالصلاة التي أفسدها صاحبها قبل الكمال، والصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب.
وهذا مأخذ كثير من الكلابية وغيرهم، وعند هؤلاء: أن الله يحب في الأزل من كان كافراً إذا علم منه أنه يموت مؤمناً، فالصحابة ما زالوا محبوبين قبل إسلامهم، وإبليس ومن ارتد عن دينه ما زال الله يبغضه وإن كان لم يكفر بعد.
يعني: باعتبار النظر إلى المآل والخاتمة.
وليس هذا -كلام للكلابية- موافقاً لأقوال السلف، ولا كان يقول بهذا من يستثني من السلف في إيمانه.
يعني: أن السلف لما كان يقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله، قصدوا معنى معيناً.
أما الكلابية ومن وافقهم إنما قالوا: إن الاستثناء واجب، فإنما نظروا إلى هذا التعليل، وهذا التعليل ليس موافقاً لكلام السلف، وهو أن الله عز وجل إنما ينظر للخاتمة ولا عبرة بقبل ذلك، وأن الكافر الذي كتب أنه سيختم له بالإسلام محبوب عند الله حتى قبل أن يكون كافراً، وكذلك -مثلاً- الصحابة قبل أن يسلموا كانوا محبوبين عند الله باعتبار مآلهم وخاتمة أعمالهم بالإسلام والإيمان، وكذلك في حق إبليس وفي حق من ارتد بعد إسلامه، فالله يبغضه قبل أن يفعل ما فعل من الكفر بالنظر إلى الخاتمة وإلى المآل، فيقول: ليس هذا قول السلف ولا كان يقول بهذا من يستثني من السلف في إيمانه، وهو فاسد؛ فإن الله تعالى قال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:٣١]، فأخبر أنه يحبهم إن اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فاتباع الرسول شرط للمحبة، والمشروط يتأخر عن الشرط، وغير ذلك من الأدلة، هذا رد على ما عللوا به.
ثم صار إلى هذا القول -القول بوجوب الاستثناء- طائفة غلوا فيه غلواً جداً وتطرفوا في الأخذ بالاستثناء حتى صار الرجل منهم يستثني في الأعمال الصالحة، وأوجبوه في قولك: أنا مؤمن، ثم عمموا إيجاب الاستثناء في كثير من الأعمال حتى ما لا يليق أن ينسب فيه الاستثناء، فيقول أحدهم: صليت إن شاء الله.
وللأسف أن بعض الإخوة يفعلون هذا فتقول لأحدهم، ما اسمك؟ يقول: أنا أخواك كذا كذا إن شاء الله وهذا شيء لا يحتمل الاستثناء، وليس في مثل هذا استثناء، وإن قلت له: أين كنت بالأمس؟ يقول: كنت بالمكان الفلاني إن شاء الله، وهذا غير صحيح، فإنما تستثني بما يكون في المستقبل، أو في مثل هذه المواضع.
يقول: حتى صار الرجل منهم يستثني في الأعمال الصالحة، ويقول: صليت إن شاء الله.
ثم صار كثير منهم -أشد غلواً- يستثنون في كل شيء، فيقول أحدهم: هذا ثوب إن شاء الله! هذا حبل إن شاء الله! فإذا قيل لهم: هذا لا شك فيه، يقولون: نعم، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره.
فعلقوا الأمر وعللوه بتعلقه بإرادة الله وعلمه تبارك وتعالى، فهذا هو المأخذ الأول الذي علل به من أوجب الاستثناء في الإيمان مذهبه.
أما المأخذ الثاني: فهو أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن، فبهذا الاعتبار شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين.
فما زلنا نناقش مذهب من يوجب الاستثناء، وقلنا: إن لهم مأخذين: المأخذ الأول: النظر إلى سابق علم الله بما تكون عليه خاتمتهم؛ ولذلك أوجبوا أن تقول: إن شاء الله، ثم حصل غلو بصورتين ذكرناهما.
المأخذ الثاني: أن من قال: أنا مؤمن ولم يقل: إن شاء الله، شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين -لأن المؤمن هو من قام بكل ما أمر به، وانتهى عن كل ما نهاه الله عنه؛ فهو يشهد لنفسه ويزكيها- القائمين بجميع ما أمروا به، وتركوا كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله المقربين، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال.
وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون.
فإذاً: لم نوافقهم في التعليل الأول، ولكن يوافقهم السلف في التعليل الثاني، وأنك إذا سئلت: أنت مؤمن؟ تقول: نعم أنا مؤمن، قالوا: إن (أنا مؤمن) هذه فيها تزكية للنفس؛ لأن المؤمن هو الموصوف بما في مقدمة سورة الأنفال، قال الله عز وجل عنهم بعدما ذكر مجموعة من خصال المؤمنين، قال: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:٤]، فإذا أنت وصفت نفسك بالإيمان ولم تستثن، فمعنى ذلك: أنك زكيت نفسك.
قال: وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا صرف الاستثناء بمعنى آخر.
فالسلف الذين اعتبروا هذا المأخذ دليلاً على جواز الاستثناء في الإيمان يجوزون عدم الاستثناء، لكن يقصد بكلمة الإيمان معنى آخر، ويحتجون أيضاً بجواز الاستثناء فيما لا شك فيه، يعني ليس معنى أنك تقول: أنا مؤمن إن شاء الله: أنك شاك في إيمانك، لكن يقولون: يجوز أن تقول: إن شاء الله فيما لا شك فيه، من حيث القلب واللسان، لكن من حيث عمل الجوارح هذا الذي أشرنا إليه في المأخذ الثاني.
كما قال تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:٢٧]، وقال صلى الله عليه وسلم حين وقف على المقابر: (وإنا إن شاء الله بكم لا حقون)، وقال أيضاً: (إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله).
ونظائر هذا.
وأما من يحرمه -الفريق الذي يحرم أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله- فكل من جعل الإيمان شيئاً واحداً، فيقول: أنا أعلم أني مؤمن، كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين، فقولي: أنا مؤمن، كقولي: أنا مسلم، فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه، وسموا الذين يستثنون في إيمانهم بالشكاكة.
يعني: متشككين في إيمانهم.
وأجابوا عن الاستثناء الذي في قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:٢٧]، بأنه يعود إلى الأمن والخوف، فأما الدخول فلا شك فيه.
يعني: أن قوله: ((لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ)).
الاستثناء فيه متعلق بأنكم ممكن أن تكونوا آمنين وممكن ألا تكونوا آمنين، لكن الدخول واقع واقع، فأعادوا الاستثناء إلى الأمن من عدم الأمن، وهذا تكلف لا شك فيه، فقالوا: إن الاستثناء يعود إلى الأمن والخوف، فأما الدخول فلا شك فيه، حتى إن بعضهم اخترع تفسيراً آخر فقال: قوله: ((لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ))، يعني: لتدخلن جميعكم أو بعضكم، فهذا هو مأخذ الاستثناء؛ لأنه علم أن بعضهم يموت قبل هذا الحادث أو هذا الوقت.
وفي كلا الجوابين نظر: فإنهم وقعوا فيما فروا منه، فأما الأمن والخوف فقد أخبر أنهم يدخلون آمنين؛ لأن الله عز وجل قال: ((لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ))، وهذه حال، يعني: تدخلون حال كونكم آمنين.
مع علمه تبارك وتعالى بذلك؛ فلا شك في الدخول، ولا شك في الأمن، ولا شك في دخول الجميع أو البعض؛ لأن الله قد علم من يدخل، فكان قوله: ((إِنْ شَاءَ اللَّهُ)) تحقيقاً للدخول، كما يقول الرجل فيما عزم على أن يفعله لا محالة: والله! لأفعلن كذا إن شاء الله.
وهذا الشيء ليس بسبب شك في عزمه وإرادته؛ لأنه لو شك ما عرف، لكن يترتب عليها فقط حكم شرعي وهو: أنه إذا حلف واستثنى فحنث لا تجب عليه الكفارة.
فقوله: والله! لأفعلن كذا إن شاء الله، لا يقولها لشك في إرادته وعزمه، ولكن إنما يقولها حتى لا يحنث في مثل هذه اليمين؛ لأنه لا يجزم بحصول مراده.
وأجيب بجواب آخر لا بأس به، وهو: أنه قال ذلك تعليماً لنا كيف نستثني إذا أخبرنا عن المستقبل، فقوله: ((لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ))، هذا تأديب للمؤمنين: أنه إذا أخبرت عن شيء تفعله في المستقبل أن تستثني، وفي كون هذا المعنى مراداً من النص نظر؛ فإنه لم يسبق الكلام له، إلا أن يكون مستنبطاً من إشارة النص.
وأجاب الزمخشري بجوابين وكلاهما عجيب، حتى إن بعض العلماء وصفه بالمسكين، حيث قال: فأجاب الزمخشري بجوابين باطلين، وهما: أن يكون الملك قد قاله، فأثبت قرآناً، أو أن الرسول قاله.
يعني: كأن كلام الملك أو كلام الرسول عليه الصلاة والسلام يدخل في القرآن؛ فيصبح قرآناً بمجرد ذلك.
ولا حول ولا قو