للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[عارض الجهل وأثره في إجراء الأحكام]

أما عارض الجهل وأثره في إجراء الأحكام على من أتى شيئاً من الأفعال الكفرية جاهلاً بذلك فالأصل في هذا أن حكم الخطاب لا يثبت في حق المكلف إلا إذا بلغه على الأظهر من أقوال العلماء.

يقول عز وجل: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:١٩] يعني: ومن بلغه هذا القرآن.

وقال عز وجل: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:١٦٥]، ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر وعماراً رضي الله عنهما لما أجنبا فلم يصل عمر وصلى عماراً لم يأمرهما بأن يعيد واحد منهما، ولم يأمر أبا ذر بالإعادة لما كان يجلس ويمكث أياماً لا يصلي، ولم يأمر من صلى إلى بيت المقدس قبل بلوغ النسخ لهم بالقضاء، ولم يأمر من أكل من الصحابة حتى تبين له الحبل الأبيض من الحبل الأسود بالقضاء، فأعذرهم بهذا الجهل.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وأصل هذا أن حكم الخطاب هل يثبت في حق المكلف قبل أن يبلغه؟ فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره: قيل: يثبت.

وقيل: لا يثبت.

وقيل: يثبت المبتدأ دون الناسخ.

والأظهر لا يجب قضاء شيء من ذلك، ولا يثبت الخطاب إلا بعد أن يبلغ الإنسان الحكم الشرعي؛ لقوله تعالى: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:١٩]، وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥]، وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:١٦٥].

ومثل هذا في القرآن متعدد.

أما العلم الثاني فهو علم الخاصة، وهو ما ينوب العباد من فروع الفرائض، ولم يرد فيه نص قاطع أو إجماع صريح، وهذا الذي يعذر فيه الجاهل بجهله، وأمثلته كثيرة تتعلق بالفروع التفصيلية، كالمتعلقة بأحكام أو تفاصيل التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك.

وهناك نسبية في العذر بالجهل بالنسبة للدار أو بالنسبة للمكان، فما يعذر به في دار الحرب غير ما يعذر به في دار الإسلام، وما يعذر به من هو في بادية أو كان حديث عهد بالإسلام ليس كما يعذر به من نشأ وتربى بين المسلمين، ومن كان عريقاً في الإسلام.

والعذر بالجهل -أيضاً- في الأزمنة التي نقصت فيها آثار النبوة وطويت خلافة النبوة التي كان فيها العلم ظاهراً والحدود تقام، والشرائع ظاهرة، والعلماء يبينون ويوضحون، ويعيش المسلم في زمن التمكين بدين الله، وكذلك العذر بالجهل في هذه الأزمان التي نعيش فيها والتي طويت فيها أعلام السنة، وانتشر فيها دعاة الضلالة ليس العذر بالجهل في ذلك كالعذر بالجهل في أزمنة التمكين وغلبة السنة وظهور دعاتها، فكل حالة بحسبها.

فالعذر بالجهل تتغير فيه الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص ونحو ذلك.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة التي يندرس فيها كثير من علوم النبوة، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما يبعث الله به رسوله، ولا يكون هناك من يبلغه ذلك.

يعني أنه لا يعلم ذلك، وليس هناك أحد يبلغه، فمثل هذا لا يكفر.

يقول شيخ الإسلام: ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاء في الحديث: (يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا زكاة ولا صوماً ولا حجاً إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة يقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون: لا إله إلا الله).

ثم ساق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قصة ذلك الرجل الذي أمر أولاده بإحراقه بعد موته وتذرية رماده في يوم ريح لعله يفلت من عقوبة الله عز وجل.

يقول شيخ الإسلام أيضاً: ولهذا لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفر الذي قال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم ذروني في اليم، فو الله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين.

وأصل الحديث أنه كان رجل فيمن قبلنا أسرف على نفسه بالمعاصي، وقال لأولاده حين حضره الموت: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم خذوا الرماد المتبقي من حرق الجثة، وانتظروا يوماً شديد الرياح، فاجعلوا جزءاً منه في الريح، وجزءاً في البر، وجزءاً في البحر، ثم علل هذا فقال: فو الله لئن قدر الله علي -أي: والله لو استطاع الله أن يجمعني بعدما يفعل بي ذلك- ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين.

فواضح جداً من السياق أن المقصود أنه كان يشك في قدرة الله على بعثه إذا فُعل به ذلك بعد موته.

فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: مع شكه في قدرة الله وآياته لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفره، والشاهد في الحديث أنه بعدما فعل به ذلك قال الله عز وجل للأرض: اجمعي ما أخذت منه.

وقال للريح كذلك، وقال للبحر كذلك، حتى أنشأه الله عز وجل وخلقه خلقاً جديداً، وسأله فقال: ما الذي حملك على ما صنعت؟ فقال: خشيتك.

فغفر له.

فهذا الرجل لو كان كافراً لن يغفر له؛ لأن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فدل دخوله في مغفرة الله على عدم كفره، وإعذاره بجهله بهذه الصفة من صفات الله تبارك وتعالى.

يقول شيخ الإسلام: ولهذا لا يكفر العلماء من استحل شيئاً من المحرمات لقرب عهده بالإسلام، أو لنشأته ببادية بعيدة؛ فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة.

وكثير من هؤلاء قد لا يكون بلغته النصوص المخالفة لما يراه، ولا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث في ذلك، فيطلق أن هذا القول كفر، فيكفر من قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها دون غيره، والله تعالى أعلم.

ويقول الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله في أصول الفقه: الجهل بالأحكام الإسلامية في غير الديار الإسلامية هو جهل قوي، إلى درجة أن جمهور الفقهاء قال: إنه تسقط عنه التكليفات الشرعية، حتى إنه لو أسلم رجل في دار الحرب، ولم يهاجر إلى الديار الإسلامية، ولم يعلم أنه عليه الصلاة والصوم والزكاة، ولم يؤد فروضاً من هذه الفرائض لأنه لم يعرف أن هذا واجب عليه فإنه لا يؤديها قضاء إذا علم.

وقال زفر: يجب عليه أن يؤديها إذا علم، ووجهه أنه بقبوله الإسلام صار ملتزماً أحكامه وعليه أداؤها، ويعذر إذا لم يؤدها في وقتها، لكن إذا علم فحكم الالتزام ثابت، ويجب عليه قضاء ما التزم.

أما جمهور الفقهاء الذين يقولون: ليس عليه أن يقضي بعدما يعلم فوجهتهم أن دار الحرب ليست موضع علم بالأحكام الشرعية، فلم تستفض فيها مصادر الأحكام ولم تنتشر، فكان الجهل جهلاً بالدليل، والجهل بالدليل يسقط التكليف إذا لم يتوجه الخطاب.

والشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله يقول في بعض محاضراته: هناك ثلاث مجتمعات: الأول: الإسلامي الذي فهم العقيدة الصحيحة، فمن عاش في هذا المجتمع لا يعذر بجهله.

الثاني: المجتمع الكافر الذي قد يسلم بعض أفراده، فمن أين للفرد المسلم فيه أن يعرف العقيدة الصحيحة؟! فهو معذور بجهله.

الثالث: مجتمع بينهما، فهو في الظاهر مسلم، وعلامات الإسلام ظاهرة عليه، لكن كبار أهله منحرفون عن العقيدة الصحيحة، فمن أين يتلقى أفراد هذا الشعب العقيدة الصحيحة؟! فيكونون -والحال هذه- معذورين.

<<  <  ج: ص:  >  >>