[تفاوت المؤمنين في درجات الجنة ونعيمها]
أخبر الله عز وجل عن المؤمنين أنهم متفاوتون في الإيمان في باب التكليف، وكذلك جعل الجنة التي هي دار الثواب متفاوتة الدرجات مع كون كل منهم فيها، فالجميع في الجنة، ولكن بتفاوت مراتب إيمانهم يتفاضلون، وما كان هذا التفاضل في الجزاء في الجنة إلا بسبب تفاضلهم في إيمانهم في الدنيا، قال عز وجل في سورة الرحمن: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:٤٦ - ٤٧]، ولا بشيء من نعمة ربنا نكذب، فلك الحمد، كما قال الجن حينما سمعوها من النبي عليه الصلاة والسلام، كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لقد قرأتها -يعني: سورة الرحمن- على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم، كنت كلما قرأت قوله تعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، قالوا: ولا بشيء من نعمة ربنا نكذب فلك الحمد).
قال تعالى: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:٤٩ - ٥٥]، إلى أن قال تبارك وتعالى: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:٦٢]، فدل على التفاوت في الجزاء في الآخرة.
وكذا في سورة الواقعة أخبر بصفة الجنة التي يدخلها السابقون، وأنها أعظم وأعلى من صفات الجنة التي يدخلها أصحاب اليمين، وكذلك في سورة المطففين قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:٢٢ - ٢٨]، وغير ذلك من الآيات.
وقال صلى الله عليه وسلم: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنات عدن).
وقال الله تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران:١٦٣]، وأهل الجنة متفاوتون في الدرجات حتى إنهم ليتراءون أهل عليين، يعني: ويرون غرفهم من فوقهم كما يرى الكوكب في الأفق الشرقي أو الغربي.
هذه حقيقة سوف يدركها كل من امتن الله عز وجل عليه بدخول الجنة، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
فأهل الجنة الذين هم أقل من أهل عليين يرون أهل عليين كما ترى أنت الكوكب الدري، وذلك أنك حينما تخرج من صلاة الفجر ترى كوكباً في السماء ذاك الكوكب هو الدري الغابر الذي يظهر في السماء، فانظر إلى مسافته إنه بعيد جداً عنا، ومع ذلك فإن أهل الجنة سيرون أهل عليين كما ترون أنتم في الدنيا هذا الكوكب الدري الغابر في الأفق الشرقي أو الغربي.
أيضاً هم متفاوتون في الأزواج، والفواكه والمطعوم والمشروب، ومتفاوتون في الفرش والملبوسات، ويا سبحان الله! شتان بين من يعيش ليدرك هذا النعيم، وبين من يعيش ويشقى ويركبه الهم والغم والحزن.
فمثلاً: إذا أغري رجل بشقة صفتها كذا وكذا كأفخم ما تكون، أو قصر في هذه الدنيا، كيف تكون علو همته في تحصيل هذا الأمر، فالناس ليس عندهم يقين أن هذا واقع فعلاً، وأن هذه دار إقامة لا موت فيها ولا انقطاع، فما من شك أن الإنسان إذا كان عالي الهمة لا يطمح فقط في دخول الجنة، ولكنه يطمع في رحمة الله، ويسأل الله الفردوس كما أوصانا بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فانظر إلى التفاوت حتى في المراتب، فعالي الهمة يطلب المراتب العليا.
والناس يتفاوتون في الفرش والملبوسات وفي الملك والجمال والنور، ويتفاوتون في قربهم من الله عز وجل، وزيارتهم إياه، ومقاعدهم يوم المزيد -الذي هو يوم الجمعة- في الجنة.
وأيضاً حديث الشفاعة فيه: أن بعض الموحدين تمسهم النار بقدر ذنوبهم، بل معروف أيضاً في مشاهد يوم القيامة أن العرق يبلغ من الإنسان بقدر ذنوبه، فمن الناس من يكون العرق عند قدميه، ومنهم من يكون عند ركبته، حسب المعاصي في الدنيا، ومنهم من يبلغ العرق إلى حقويه، ومنهم من يصل إلى صدره، ومنهم من يلجمه العرق، والعياذ بالله! فبماذا يكون هذا؟ يكون بقدر الذنوب، وتفاوت الناس في قوة الإيمان.
أيضاً: عصاة الموحدين في النار تمسهم النار بقدر ذنوبهم، والسير على الصراط أيضاً يكون بقدر قوة الإيمان، وهذا فيه تفاوت، فهناك من يمشي بسرعة البرق، ومن هو بسرعة الريح، ومن يحبو، ومن يقع وهكذا، فهذا كله بمقدار الذنوب.