[كلام ابن خزيمة في معنى أحاديث الوعيد]
قال إمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة رحمه الله تعالى: معنى هذه الأخبار إنما هو على أحد معنيين: أحدهما: لا يدخل الجنة.
أي: بعض الجنان.
يعني: لا يدخل جنة معينة، أو أن جزءاً معيناً من الجنة محرم على من أتى هذه الذنوب.
يقول: أحدهما: لا يدخل الجنة، أي: بعض الجنان؛ إذ النبي صلى الله عليه وسلم قد أعلم أنها جنان من جنة، واسم الجنة واقع على كل جنة منها، فالجنة مراتب ودرجات متفاوتة تفاوتاً عظيماً.
وهذه الأخبار التي ذكرها: من فعل كذا لبعض المعاصي حرم الله عليه الجنة، أو لم يدخل الجنة، معنى ذلك: لا يدخل بعض الجنان التي هي أعلى وأشرف وأنبل وأكثر نعيماً وسروراً وبهجة وأوسع؛ أنه أراد لا يدخل شيئاً من تلك الجنان التي هي في الجنة، وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قد بين خبره الذي روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يدخل الجنة عاق، ولا منان، ولا مدمن خمر)، بين أنه إنما أراد حضيرة القدس من الجنة على أحد المعنيين.
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: (لا يدخل حظيرة القدس سكير، ولا عاق، ولا منان).
فهذا الحديث يوضح الحديث الأول.
فتحمل بعض هذه النصوص على هذا الاحتمال الأول، أو على الثاني: منطقة معينة من الجنة تحرم على من أتى هذه الذنوب.
قال: ولكنه يدخل الجنة، لكن جنات معينة ودرجات معينة من الجنة يدخلها من لم يأت بهذه المعاصي، أما من أتى بها فهو وإن دخل الجنة لكن يكون في مرتبة دون تلك التي دخلها من عافاه الله منها.
قال: والمعنى الثاني: أن كل وعيد في الكتاب والسنة لأهل التوحيد فإنما هو على شريطة إلا أن يشاء الله تعالى أن يغفر له.
يعني: من فعل كذا فهو في النار، أو حرم الله عليه الجنة، أو لا يجد ريح الجنة إلا أن يعفو الله عنه.
فيقدر هذا الشرط لفهم الحديث فهماً صحيحاً.
فيقول: إن كل وعيد في الكتاب والسنة لأهل التوحيد فإنما هو على شريطة إلا أن يشاء الله تعالى أن يغفر له ويصفح ويتكرم ويتفضل، فلا يعذب على ارتكاب تلك الخطيئة، إذ الله عز وجل قد أخبر في محكم كتابه أنه قد يشاء أن يغفر دون الشرك من الذنوب، كما في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨]، فإذا قيل لك: ما الدليل على الاشتراط؟ فالدليل هو: ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ))، فلا يدخل تحت المشيئة إلا من سلم من الشرك وإن استحق دخول النار، وقد يعافى من دخول النار إذا شاء الله أن يعافيه ويعفو عنه بسبب من أسباب كثيرة جداً سنذكرها إن شاء الله في حينها.
يقول: واستدللت أيضاً بخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى، وساق بإسناده إلى قيس بن محمد بن الأشعث: أن الأشعث وهب له غلاماً فغضب عليه بعدما وهبه الغلام، وقال: والله ما وهبت لك شيئاً، فلما أصبح رده عليه ثانية وندم، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف على يمين صبراً ليقتطع مال امرئ مسلم لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان؛ إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه).
الشاهد تعليق العقوبة على مشيئة الله تبارك وتعالى، وقد تقدم حديث عبادة بن الصامت رضي الله تبارك وتعالى عنه في قصة البيعة، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: (بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف؛ فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه؛ فبايعناه على ذلك).
الشاهد أنه بعدما أخذ عليهم ألا يشركوا بالله تبارك وتعالى شيئاً أخذ عليهم أيضاً ألا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم في جملة أخرى من المعاصي، ثم قال: (فمن وفى منكم فأجره على الله) هذا المسدد الموفق الذي وفى بالبيعة ولم يخالف ولم يرتكب شيئاً من هذا.
قوله: (ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له)، المقصود من أتى بشيء دون الشرك يستوجب حداً من الحدود فعوقب في الدنيا بإقامة الحد عليه، فإقامة الحد تطهير وكفارة لهذا الذنب، سواء أقر عند الحاكم أو شهد عليه الشهود بأنه فعل فأقيم عليه الحد، لكن إذا ستره الله فليستر على نفسه طمعاً في رحمة الله، كما ستر عليه في الدنيا يستر عليه في الآخرة، لكن لا يفضح نفسه ولا يكشف ستر الله تبارك وتعالى عليه.
وذلك لقوله: (ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه).
الشاهد: دخول السارق أو الزاني أو القاتل أو فاعل أي شيء من هذه المخالفات تحت المشيئة، وهذا يدل على أنه فعل شيئاً دون الشرك، وعلى أنه مؤمن ناقص الإيمان بمعصيته، لكن ليس مؤمناً إيماناً مطلقاً كما بينا ذلك مراراً.
يقول الإمام أبو بكر بن خزيمة رحمه الله: فاسمعوا الخبر المصرح بصحة ما ذكرت أنها جنان في جنة، واسم الجنة واقع على كل جنة منها على الانفراد، فيستدل بذلك على صحة تأويلنا الأخبار التي ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم: من فعل كذا وكذا لبعض المعاصي لم يدخل الجنة، إنما أراد بعض الجنان التي هي أعلى وأشرف وأفضل وأنبل وأكثر نعيماً وأرفع، إذ محال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: من فعل كذا وكذا لم يدخل الجنة.
يريد: لا يدخل شيئاً من الجنان، ويخبر أنه يدخل الجنة، فتكون إحدى الكلمتين دافعة للأخرى، وأحد الخبرين دافعاً للآخر.
ففي الحديث: (من قال لا إله إلا الله صادقاً من قلبه دخل الجنة أو حرمه الله على النار) إلى آخر الجملة الأخرى من الأحاديث، فمن يقول: لا إله إلا الله، فهو بذلك يستحق الجنة، ثم يأتي نص آخر فيكون هذا الشخص الذي فعل معصية معينة تحرم عليه الجنة أو يدخل النار.
فالمقصود أن هناك تعارضاً في الظاهر لا يقع في الحقيقة بين النصوص، فهذا الجنس من الأخبار لا يدخله النسخ؛ لأنه يلزم من ذلك التضارب في أشياء لا يدخل فيها النسخ، لكن هذا من ألفاظ العام الذي يراد به الخاص.