[ترجيح ابن تيمية القول بالامتحان في عرصات القيامة]
بعد سرد أدلة الاتجاهات الثلاثة في حكم من لم تبلغه الدعوة أصلاً وبقي في غفلته سادراً رجح كثير من المحققين ومن السلف القول الثالث، وهو أنهم يمتحنون في عرصات يوم القيامة، وهذا الاستدلال لا ينافيه ما استدل به الفريق الأول الذي قال: إنهم ناجون، ولا ما استدل به الفريق الثاني الذي قال: إنهم في النار.
أما ما استدل به الفريق الأول بما يفيد نفي العذاب عن أهل الفترة، فتلك الأدلة التي تنفي العذاب عن أهل الفترة لا تدل على أنهم ناجون، ولا تدل على أنهم في الجنة، فيمكن أن تأتلف مع أدلة من قال بالامتحان، أما أهل الفترة فلا تشملهم تلك النصوص؛ لأن هناك نصوصاً أخرى دلت على أنهم يمتحنون في عرصات القيامة، وهي النصوص التي استدل بها الفريق الثالث.
أما ما استدل به الفريق الثاني من نصوص تفيد أنهم في النار فيجاب عنها بأنها نصوص عامة، كقوله تعالى: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:١٨]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} [البقرة:١٦١]، فهذه نصوص عامة.
أما أهل الفترة الذين لم تبلغهم الدعوة فقد وردت فيهم النصوص التي تخصهم، فيخرجون من هذا العموم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فمعلوم أن الحجة تقوم بالقرآن على من بلغه، كقوله تعالى: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:١٩]، فمن بلغه بعض القرآن دون بعض قامت عليه الحجة بما بلغه من القرآن دون ما لم يبلغه، فكيف بمن لم يبلغه جميع نصوص الكتاب؟! فهذا من باب أولى.
هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
أما حديث: (استأذنت ربي في أن استغفر لأمي) وحديث: (إن أبي وأباك في النار) فهذه نصوص قد تكون في غير محل النزاع، أو تحمل على أن هؤلاء قد بلغتهم الدعوة وما نحن فيه قسم آخر غير هذا القسم، وهو القسم الذي لم تبلغه الدعوة أصلاً.
أما استدلال المعتزلة بالعقل فلا يصح؛ لأن العقل لا يدرك به التكليف على انفراده، وهذا سنبينه إن شاء الله فيما بعد.
وقد أشرنا إلى أن اختيار أهل التحقيق من العلماء أن أهل الفترة يمتحنون، يقول الإمام الحافظ أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى: إن النذارة لا تلزم إلا من بلغته لا من لم تبلغه، وإنه تعالى لا يعذب أحداً حتى يأتيه رسول من عند الله، فصح بذلك أن من لم يبلغه الإسلام أصلاً فإنه لا عذاب عليه، وهكذا جاء النص من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فيوقد لهم ناراً يقال لهم: ادخلوها.
فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً).
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: إن العذاب يستحق بسببين: أحدهما الإعراض عن الحجة، وعدم إرادتها والعمل بموجبها، والثاني: العناد لها بعد قيامها، وترك إرادة العمل بموجبها، فالأول كفر الإعراض، والثاني كفر عناد، أما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التذكر بمعرفتها فهذا الذي نفى الله سبحانه وتعالى التعذيب عنه حتى تقوم الحجة بإرسال الرسل.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: فقد صحت مسألة الامتحان في حق من مات في الفترة والمجنون.
ويقول الشنقيطي رحمه الله: والجمع بين الأدلة واجب ما أمكن بلا خلاف، وإعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ولا وجه للجمع إلا بهذا، وهو القول بالعذر والامتحان.